المادة    
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فيقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في مدارج السالكين: (من أحكام التوبة أنه: هل يشترط في صحتها ألا يعود إلى الذنب أبداً أم ليس ذلك بشرط؟).
هذه قضية أخرى، فكثير من الناس -ولله الحمد- تابوا وأقلعوا عن الذنوب وعادوا إلى الله والتزموا طريقه، ولكن هل يشترط في هذه التوبة ألا يعود هذا التائب إلى الذنب أبداً، حتى إذا عاد انتقضت كلها وكأن التوبة لم تكن، أم أن ذلك ليس بشرط؟
وهذه المسألة ترجع إلى أنه هل هنالك شروط غير الشروط الثلاثة التي ذكرناها، وهي الإقلاع والندم والعزم على ألا يعود، وأن يتحلل منه إذا كان حقاً لآدمي؟
وهذه المسألة -أعني مسألة الشروط- محل بحث ونظر بين العلماء، فمنهم من جعلها شرطاً واحداً وهو الندم، فقالوا: كل من ندم على ذنب فعله فقد تحققت منه التوبة. ويستشهدون لذلك بحديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الندم توبة )، والحديث حسن كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح كتاب التوحيد من صحيح الإمام البخاري .
وبعضهم يزيد على ذلك شروطاً أخرى يذكرها العلماء رحمهم الله في كتب التفسير وفي كتب المواعظ عندما يتعرضون لمعنى التوبة النصوح؛ لأنهم يرون أن التوبة النصوح قد استكملت الشرائط وتحققت فيها الأمور الواجبة والكمالات وهي التي ذكرها الله تعالى في قوله: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ))[التحريم:8].
فالتوبة الحقيقية الكاملة التي يكفر الله تعالى بها الذنوب والسيئات ويرفع بها الدرجات هي الموصوفة بأنها نصوح، فهنا موضع ذكر العلماء لشروط التوبة ولما ورد بشأنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عمن دونه من الصحابة والتابعين، ولهذا نجد الإمام ابن حجر رحمه الله لما تعرض لهذا الموضع ذكر عن القرطبي أنه اجتمع له في معنى (النصوح) ثلاثة وعشرون قولاً، والقاعدة أن اختلاف السلف الصالح غالباً هو من باب اختلاف التنوع وليس من باب اختلاف التضاد، إلا فيما ندر من المسائل فمنهم من قال: (نصوح): بإخلاص. ومنهم من قال: إنها بندم، وهو أكثر وأظهر ما روي عنهم، كما ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه -وروي مرفوعاً، والأظهر أنه من كلام عمر - أنه قال: [ التوبة النصوح: ألا يعود إلى الذنب أبداً ].
وقال بعضهم: النصوح: هي التي يتوبها العبد صادقاً مخلصاً، وأخذوا ذلك من كلام العرب، وهذه الأقوال تجدها في تفسير هذه الآية في تفسير الإمام الحافظ محمد بن جرير الطبري ، كما تجدها أيضاً في الدر المنثور ، حيث جمع الروايات في ذلك.
فالعرب إذا قالت: هذا شيء ناصح فمعناه: نقي خالص صاف غير مغشوش، ومنه: (الدين النصيحة)، فالنصيحة أمر يجتمع فيه الصدق مع الإخلاص، فلو قلت لأخ من إخوانك: أنا لك ناصح فمعنى ذلك أنك صادق فيما تقول وأنك مخلص، إذ قد يصدق بعض الناس لكنه يكون غير مخلص، فيصدق وهو كذوب، مثل الشيطان الذي جرت قصته مع أبي هريرة رضي الله عنه، فقد صدق في قوله لكنه لم يقله وهو مخلص أو على سبيل النصح الحقيقي له، ولكن ليأخذ مقابل ذلك عرضاً من الدنيا، وقد يكون الإنسان مخلصاً ولكن لا يكون صادقاً، أي: لا تكون نصيحته مطابقة للواقع، لكن الناصح هو الذي يقول الكلام عن صدق وعن إخلاص، ولهذا قال كل من الرُسل الكرام: (( وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ))[الأعراف:68]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الدين النصيحة ).
إذا قلنا: إن من شروط التوبة النصوح عدم معاودة الذنب، أو ألا يرجع إلى الذنب مطلقاً؛ فهل معنى ذلك أنه إذا عاد إلى الذنب تبطل التوبة ويصبح كأنه لم يتب، فيحاسب ويعاقب على الأول والآخر من ذنوبه، أم أنه يستأنف من جديد؟
هذه المسألة موضع خلاف بين العلماء، وهناك قول لـعبد الله بن المبارك رضي الله عنه ذكر فيه بعضاً مما عده بعض العلماء من شروط التوبة زيادة على ما سبق، لكن الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى قال: هذا من المكملات. ولكنه قول مفيد يبين أن كلام السلف رضي الله عنهم هو أفضل العلم، كما كتب الحافظ ابن رجب : (فضل علم السلف على علم الخلف)، ففضل علم السلف أمر يجب أن يعلم في كل قول وفي كل مسألة.
فـعبد الله بن المبارك في هذا الأمر يقول: [ التوبة هي الندم والعزم على عدم العود ورد المظلمة وأداء ما ضيع من الفرائض وأن يعمد إلى البدن الذي رباه بالسحت فيذيبه بالهم والحزن حتى ينشأ له لحم طيب ].
يعني أن البدن الذي تربى بالسحت وتربى بالحرام وبالشهوات المحرمة يذاب شحمه ولحمه بالهم والحزن والألم والندم على ما فات منه، والتضرع إلى الله تعالى بأن يغفر له ويمحو عنه خطيئته، حتى يبدله الله لحماً طيباً ينشأ مكانه، فكأنه لا ينسلخ من ذنبه فحسب، بل كذلك ينسلخ من ذلك الجسد، فيتغير القلب وتتغير الجوارح؛ حتى تكون التوبة حقيقية.
قال رحمه الله تعالى: [وأن يذيق نفسه ألم الطاعة كما أذاقها لذة المعصية].
والطاعة في الحقيقة ليست مؤلمة لمن عرف قيمتها، بل الطاعة هي الراحة وهي اللذة وهي النعيم، لكن التائب يكون -غالباً- حديث العهد بالطاعة، فتكون الطاعة عليه شاقة ومؤلمة، فـابن المبارك يقول: آلم نفسك وجوارحك، واجعلها تتحمل المشقة والألم في الطاعة كما ذاقت لذة الشهوة في الذنب والهوى والمعصية، فهذه كفارة تلك، فحينئذ تكون التوبة وتحصل بإذن الله تعالى.
إذاً: هناك شروط قد يعدها بعض العلماء زيادة على الثلاثة والبعض يرى أنها مكملات داخلة ضمن الندم.
  1. أقوال العلماء في اشتراط عدم معاودة الذنب

  2. ذكر حجج القائلين بشرطية عدم المعاودة

  3. حجة القائلين بصحة التوبة الأولى مع معاودة الذنب

  4. مدى موافقة القول بصحة التوبة مع المعاودة لأصول أهل السنة