المادة    
يقول رحمه الله: (فإن كان متواتر أخباره وآحادها لا تفيد علماً ولا يقيناً لم يكن للرد إليه وجه) أي: ليس هناك فائدة ما دام أنها لا تفيد العلم، وهذا واضح وجلي، فيا عجباً كيف أن ملوك الأرض كسرى أو قيصر وأمثالهم قبلوا خبره صلى الله عليه وسلم؟! ولا نعني قبلوا خبره: آمنوا وأذعنوا، لكنهم علموا أن هذا من عنده، ولم يشترطوا أن يأتيهم جمع متواتر، وإنما جاءهم منه صلى الله عليه وسلم كتاب فعلموا أن هذا من عنده، وكاد هرقل أن يسلم وقال: ائتوني بكل مختون، وجاء إليه أبي سفيان ومن معه، وكان الحديث العجيب بينهما، وهذا مذكور في صحيح البخاري ، فرتب على وصول هذا الكتاب إليه هذه الأمور العظيمة، فكيف يأتي مسلم ويقول: لا آخذ بهذا الحديث لأنه آحاد!
ثم يقول: (ولما أصل أهل الزيغ والضلال هذا الأصل، ردوا ما تنازع فيه الناس من هذا الباب إلى منطق اليونان وخيالات الأذهان، ووحي الشيطان، ورأي فلان وفلان) أي: لما قال هؤلاء القوم: لا نتحاكم إلى الأحاديث؛ لأنها لا تفيد اليقين، فالمتواتر منها ما يفيد اليقين، والآحاد ظني فردوا الأحاديث، وبالتالي قالوا: إذاً لا بد من حكم، فتحاكموا إلى منطق اليونان ، فأخذوا يتحاكمون إلى الأقيسة والقواعد اليقينية أو القطعية -بزعمهم- التي هي كلام هؤلاء اليونان الكفرة الوثنيين، الذين ما أفلحت فلسفتهم ولا منطقهم في الرد على بني دينهم وجنسهم، بل إنه لما ورد كتاب المأمون أو غيره من قبله إلى ملك قبرص بأن يعطوهم ما عندهم من الكتب، وهذا يخالف ما فعل عمر رضي الله تعالى عنه، فإن عمر رضي الله تعالى عنه لما كتب إليه سعد بن أبي وقاص قال: إن لدينا زاملتين -أي: حمولة بعيرين- من الكتب وجدناها عند الفرس فهل نرسلها؟ فكتب إليه عمر رضي الله تعالى عنه أن أحرقوها، فقد أغنانا الله تعالى بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم عن كل كتاب، فأحرقوها، فما أتانا الشر من جهة الفرس، لكن المأمون كتب إلى ملك قبرص ليرسل ما عنده من كتب، فتشاوروا فانقسموا إلى رأيين، طائفة قالوا: كيف نبعث إليهم بكتبنا، وهي علمنا وحضارتنا وتراثنا، وهم أعداؤنا؟! وطائفة قالوا: أخرجوها لهم وأعطوهم إياها، فوالله ما انتشرت هذه الكتب في أمة إلا فرقت دينهم، ففكر الملك ومال إلى هذا الرأي، فبعث إليهم بهذه الكتب، فأنشئت دار الشر والفتنة التي سميت: دار الحكمة في بغداد ، وأخذ عبد الله بن المقفع وأمثاله يترجمون هذه الكتب وينشرونها بين الناس، حتى أنهم نشروا كتاب كليلة ودمنة، وترجموه عن الهندية ليستغني الناس بما فيه من الأمثال عما جاء في الحديث، وهي كتب للمساهرة ولإضاعة الأوقات -كما تسمى- ولمن لا علم لهم بالشرع، أما أن تحل هذه الكتب أو هذه الأمثال والعبر والحكم -بزعمهم- محل القرآن والسنة فهذا باطل، فانتشرت هذه الكتب فتفرق المسلمون -كما تعلمون- من بعد ذلك تفرقاً عظيماً، ولذلك لما عزلت الأحاديث عن التحاكم إليها حكمت هذه الكتب بما فيها من ضلالات، فإما منطق اليونان وإما خيالات الأذهان كما يفتري ابن سينا أو ابن رشد وأمثالهم، أو وحي الشيطان الذي يلقيه إلى الكهان وإلى الصوفية، والشيخ هنا يعرض بـالصوفية؛ لأن أنواع التحاكم قد بينها فيما بعد وأشار إليها، وأوضحها أيضاً في المدارج، وقد تحدثنا في موضوع الرضا عندما ذكرنا أن الرضا من أعمال القلوب، وذكر أنه يمكن أن يعترض أحد أو أن يعارض الشرع إما بالمعقول فيقول: هذا معقول، وبراهين عقلية، وهؤلاء هم المتكلمون والفلاسفة ، وإما أن يعارضوا بالخيالات كالكشوفات والمخاطبات والمنامات، وهؤلاء هم الصوفية ، وإما أن يعارضوا بالسياسات فيقولون: الشرع كذا ولكن السياسة تقتضي كذا، وهؤلاء رد عليهم ابن القيم رحمه الله في الطرق الحكمية وفي إعلام الموقعين وغير ذلك، والذين يعارضون الحديث يقولون: لو عملنا بالحديث -مثلاً- لضاعت الحقوق وتعطل الأمن، ولو عملنا بالحديث لدرءنا الحدود بالشبهات، وهذا باطل كما نبين إن شاء الله، فإنه ما من حكمة أو مصلحة إلا وقد جاء بها الشرع ودل عليها والحمد لله، وما عدا ذلك فهو باطل، وما يظنه أهل الكلام عقلاً فهو رأي وهوى، وما يظنه أهل التصوف كشفاً أو إلهاماً فهو خيال وضلال ووهم، وما يظنه أصحاب السياسات حزماً وقوة وقانوناً ونظاماً فهو إجحاف وظلم وباطل، وكل الحق محصور فيما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: (فلان وفلان). أي: أتباع المتعصبين للمذاهب، فإنك إذا أتيته بالحديث يقول: أنا أرجع إلى كلام فلان، فهذا أيضاً لم يرد الحكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه أنواع الرد لما جاء من عند الله.
ثم يقول: (وهؤلاء كلهم يتناولهم قوله تبارك وتعالى: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ))[النساء:60]) فمناط الحكم هو إرادتهم، وإلى الآن ما حاكموا، لكن أرادوا فقط، فنقول: مجرد أن يريد الإنسان أو يرضى أو يرغب في التحاكم إلى غير الشرع، فهذا هو الذي جعله الله تبارك وتعالى لا يجتمع مع الإيمان، بل هو النفاق الأكبر، فالإيمان معه مجرد زعم وليس إيماناً على الحقيقة، ويؤكد هذا قوله تعالى: (( وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ))[النساء:60] فلا يكون العبد مؤمناً بالله إلا إذا كفر بالطاغوت، قال تعالى: (( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا ))[البقرة:256]، والعروة الوثقى هي شهادة أن لا إله إلا الله، فمن لم يكفر بالطاغوت فهو لم يشهد أن لا إله إلا الله، ثم يقول الله تكملة للآية: (( وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا ))[النساء:60].