المادة    
علماء الكلام يقولون: إن الدين دينان: دين التقليد وهذا ما عليه العوام ويدخلون فيهم العلماء المشتغلين بالحديث؛ لأنهم لم يشتغلوا بعلم الكلام فيقولون: هَؤُلاءِ مؤمنون عَلَى التقليد، ولدوا عَلَى الإسلام وتعلموا القُرْآن والسنة ولم ينقحوا الإيمان ولم يقووه بالدلائل العقلية!
والنوع الآخر إيمان علماء أهل الكلام الذي يقولون فيه: إنه إيمان راسخ، مبني عَلَى العلم، وعلى البرهان، والحجة والدليل. والواقع أن اعترافهم في آخر أعمارهم بأن دين العجائز أفضل مما هم عليه ينفي ذلك أي: أنه تقليد.

فالمسألة إذاً ليست تقليد، فهذا الدين هو فطرة الله التي خلق النَّاس عليها لا تبديل لخلق الله- ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا))[الروم:30] فالله تَعَالَى فطر النفوس عَلَى هذا الدين كما وضح ذلك النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح {كل مولود يولد عَلَى الفطرة} أي: يولد عَلَى الملة، وفي رواية: {عَلَى هذه الملة} وكلها معناها واحد وهو: أن كل مولود يولد عَلَى الإسلام، وعلى الملة الصحيحة القويمة، وهي الإسلام والتوحيد، ومعرفة الله تَعَالَى معرفة مجملة؛ لكنها صحيحة وسليمة، ولهذا لو سألت العجوز أو الأعرابي أو الطفل -المميز- أين الله تعالى؟ لقال لك: في السماء. حتى أولاد اليهود وأولاد النَّصارَى يولدون عَلَى أن الله واحد، وإذا كَبُرَ علَّموه أنه سبحانه ثلاثة تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ومن رحمة الله تَعَالَى وحكمته أنه لم يُقِمِ الحجةَ علينا بالمعرفةِ الفطرية وحدها، وإلَّا لكانت كافية قال تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى[الأعراف:172] فهذا الميثاق الفطري الذي أخذه الله - تعالى- من الذرية من ظهور بني آدم، هو فطرهم عَلَى الشهادة والإقرار له -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالوحدانية، فهو إذاً أمر موجود في النفوس؛ لكن من رحمة الله أنه لم يجعل ذلك مناط العقوبة، فيعاقبنا بناءً عَلَى العهد الذي أخذه منا، أو بناءً عَلَى الفطرة التي فطرنا عليها؛ بل بعث الله تَعَالَى الرسل ((رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ))[النساء:165] وهذا من فضله تَعَالَى أنه لا يعاقب أحداً إلا بعد مجيء النذير وهو الرَّسُول أو القُرْآن أو الحق. فهذا من كمال عدل الله وحكمته.

ثُمَّ يقول المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-: [والدواء النافع لمثل هذا المرض] مرض الشك والريب وعدم معرفة الأدلة ووضوحها أمام اختلاف الآراء فيها [ما كَانَ طبيب القلوب صلوات الله وسلامه عليه يقوله: إذا قام من الليل يفتتح الصلاة] كما في صحيح مسلم {اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إِلَى صراط مستقيم} خرَّجه مسلم وهذا تعليم لنا، فنحن أحوج -بلا شك ولا ريب- إِلَى أن ندعو بهذا الدعاء، والنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هداه ربه إِلَى ما اختلف فيه من الحق من هذه الأمور، عَلَى أن كثيراً مما يختلف فيه علماء الكلام هو بالنسبة لنا إذا أخذناه من كلام السلف الصالح ومنهجهم لا اختلاف فيه ولا شبهة ولا شك، لكن قد توجد أمور دقيقة في بعض المسائل مما يغمض ويدق فهذا الذي ندعو الله أن يرينا الحق فيه، وقد كَانَ أكابر العلماء كشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ- يدعون بهذا الدعاء وأمثاله، إذا أشكلت عليهم المسائل وتعقدت عليهم الأمور فترى أحدهم يتوجه إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنه هو الذي يعلم الغيب وهو الذي بيده كل شيء، وهو الذي -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أحاط بكل شيء علماً.
ثُمَّ يقول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: [توسل صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ربه بربوبية جبريل...] يعني: ربوبية الله -تعالى- لجبريل وميكائيل وإسرافيل [أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه إذ حياة القلب بالهداية] فإذا لم يكن القلب مهتدياً كَانَ ميتاً.