المادة    
ثم قال الشارح رحمه الله: [وأما من يجوز الاستثناء وتركه فهم أسعد بالدليل من الفريقين، وخير الأمور أوسطها، فإن أراد المستثني الشك في أصل إيمانه منع من الاستثناء، وهذا مما لا خلاف فيه، وإن أراد أنه مؤمن من المؤمنين الذين وصفهم الله في قوله: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ))[الأنفال:2-4]، وفي قوله تعالى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ))[الحجرات:15] فالاستثناء حينئذ جائز، وكذلك من استثنى وأراد عدم علمه بالعاقبة، وكذلك من استثنى تعليقاً للأمر بمشيئة الله، لا شكاً في إيمانه، وهذا القول في القوة كما ترى].
إذاً: من يجوز الاستثناء وتركه باعتبارات معينة، فهو أسعد الفريقين، وهذا هو القول الصحيح، وهو ما عليه السلف، ويكون عندنا أربع فقرات:
الأولى: إن أراد المستثني بالاستثناء الشك في أصل إيمانه، أي: يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فهو لا يدري أهو مؤمن أم لا؟ فهذا يمنع منه، وهذا مما لا خلاف فيه بين السلف أو من غيرهم.
الثانية: إن أراد أنه من المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى في القرآن، كما في آيات الأنفال أو آيات الحجرات أو آيات المؤمنون، فالاستثناء حينئذ جائز.
الثالثة: أن من استثنى وأراد عدم علمه بالعاقبة، لكن يدعو الله أن يثبته، ويرجو الله أن يلقاه على الإيمان إن شاء الله، وهذا غير الموافاة، مع أنهما قريبان في المعنى، لكن لا ننسى أن الذين قالوا: بالموافاة يوجبون الاستثناء، وهذا الكلام له علاقة بالصفات، فـالأشاعرة الذين يوجبون الاستثناء يقولون: قد أعمل صالحات، وأجتهد في كل أعمال الطاعات، ومع ذلك ربما لا يتقبل مني، وربما يجعلني في النار، فلابد أن تقول: إن شاء الله، بل حتى تقول: هذا ثوب إن شاء الله، هذا حديد إن شاء الله؛ لأنه يقول: ما ندري عن شيء، فربما أدخل الجنة أعدى أعدائه، وربما أدخل النار أحب أحبابه، وهذا لا يجوز، أما المؤمن فهو يخاف على نفسه من سوء الخاتمة، ففرق بين هذا وذاك، لكن يقول: لا، فأنا لو مت على خاتمة حسنة أكون بإذن الله من المؤمنين من أهل الجنة، وليس فقط بذلك الاعتبار، وهناك قدر مشترك بين الطائفتين، لكن أيضاً هناك زيادة غلو عند الذين يوجبون الاستثناء.
الرابعة: كذلك من استثنى تعليقاً للأمر بمشيئة الله لا شكاً في إيمانه، فهو يقول: أنا مؤمن إن شاء الله من باب أن الأمور كلها توكل إلى الله، فيكون من عادته أن يكل الأمر إلى الله، حتى فيما هو جازم متيقن به كما مثل الشيخ: أن يقول الواحد: أنا آتيك غداً إن شاء الله، أنا سآخذ كذا إن شاء الله، أنا أترك كذا إن شاء الله، فهذا من باب إيكال الأمور وتفويضها إلى الله، وليس من باب ترك الجزم أو عدم الجزم أو عدم القطع للإيمان لا شكاً في إيمانه، يقول: وهذا القول في القوة كما ترى؛ لأن الأوجه تجمع، وهذا القول واضح القوة والحمد لله، فلا نقول بالوجوب مطلقاً، ولا بالتحريم مطلقاً، وإنما نقول: كل له اعتبار، فإذا جمعنا هذه الأقوال وخلصنا بهذه الأربع النقاط فهذا قول قوي وراجح وواضح إن شاء الله تبارك وتعالى، وتزكية النفس منها داخل في الثاني؛ لأنه قلنا: وإن أراد أنه من المؤمنين الذين وصفهم الله فإنه ينبغي أن يزكي نفسه، لكن نقول: أنا مسلم، وهنا قصة عظيمة نافعة عن الحسن أنه قال له رجل: [ أيها الحسن ! أنت من المؤمنين؟ قال: إن كنت تريد: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ.. ))[الأنفال:2] لا، وأما إن كنت تريد قول الله تعالى: (( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ))[التوبة:102] فأنا منهم ].
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.