الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فقد قال رحمه الله -مأخذ السلف الذين يرون الاستثناء-: (المأخذ الثاني: أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك ما نهاه عنه كله) أي: أن السلف نظر بعضهم إلى أن الإيمان إذا أطلق ولم يقيد بالاستثناء أو بغيره؛ فإنه يتضمن فعل كل ما أمر الله به، وترك كل ما نهى عنه، وعلى هذا فلا يستطيع أن يدعي لنفسه هذا فيقول: أنا مؤمن ولا يستثني، فكأنه زكى نفسه؛ لأنه فعل كل ما أمر الله به، وترك كل ما نهى الله عنه، إذ من المعلوم أن كل شعب الإيمان هي داخلة في الإيمان، وأن الإيمان بضع وستون، أو بضع وسبعون شعبة، فكل الأعمال التي أمر الله تبارك وتعالى بها، وكذلك إيمان العبد واجتنابه لما نهى الله تبارك وتعالى عنه، كل ذلك من شعب الإيمان، ومن نظر إلى هذا قال: كيف أقول: أنا مؤمن بإطلاق ولا أستثني.ثم قال: (فإذا قال الرجل: أنا مؤمن، بهذا الاعتبار فقد شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين القائمين بجميع ما أمروا به، وترك كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله المقربين، وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة، لكان ينبغي أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذا الحال).وقوله: (وهذا من تزكية الإنسان لنفسه) يفهم النهي؛ لأن الله تعالى يقول: ((
فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ))[النجم:32]، ويقول: ((
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ))[النساء:49]، فإذاً: بالمفهوم يدل على أن هذا منهي عنه.ثم قال: (ولو كانت هذه الشهادة صحيحة -وهذه جملة مستأنفة- لكان ينبغي أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال) وهذا ما قاله
عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه كما في الروايات التي أوردناها سابقاً، أي: أنه رأى أن هذه لازمة لتلك فقال: لو قلت بإحداهما لأتبعتها الأخرى، أي: إذا قلت: أنا مؤمن، فيلزم منه أن أقول: أنا من أهل الجنة؛ لأن المؤمن الذي استكمل شرائط الإيمان وشعبه وأركانه وواجباته لا ريب أنه من أهل الجنة، وكما أن الإنسان يتورع أن يقول: إني من أهل الجنة، فكذلك لا يقول عن نفسه: إنه مؤمن؛ لأن هذا لازم لهذا، وهذه وجهة نظر هؤلاء.ثم يقول: (وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون). وهؤلاء يختلفون عن
الأشعرية في المأخذ، فهذا مأخذهم، وليس مأخذهم الموافاة والقبول، ثم قال: (وإن جوزوا ترك الاستثناء بمعنى آخر) والمقصود بـ(جوزوا): بعضهم، وليس أن الذين قالوا بالاستثناء جوزوه؛ لأنه يتكلم الآن عن السلف، فإذا قال: السلف جوزوا، والسلف منعوا، فالمقصود: أن بعضهم جوز، وبعضهم منع، ثم يقول: كما سنذكره إن شاء الله تعالى. أي: من جوز تركه فلمعنىً آخر.