المادة    
قال رحمه الله: (فأما الإحسان فهو أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أهله، والإيمان أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أهله) وسيبين الشارح رحمه الله تعالى اختلاف الناس في العلاقة بين الإيمان والإسلام أهما مترادفان أم أن أحدهما داخل في الآخر؟ وكذلك الإحسان، والقول الصحيح الذي تشهد له الأدلة، وعليه جمهور السلف هو أن هذه الدرجات ثلاث، وتختلف معانيها بحسب الاقتران والانفراد كما تقدم، وأول ما بدأنا بحث الإيمان بدأنا بموضوع الألفاظ، وبينا الإيمان عند السلف وناقشنا الشبهات في هذه المسألة.
والشيخ رحمه الله تعالى ترتيبه هنا فيه نوع من عدم الدقة؛ لأنه في الأخير بدأ يقرر الأمور التي لو أنه قررها في البداية لكان أفضل لاستيعاب القاري أو المطلع، وذلك من خلال حديث جبريل وغيره، فالشيخ رحمه الله تعالى أخرها إلى هنا وقال: إن الإيمان والإسلام وكذلك الإحسان إما أن تذكر منفردة، وإما أن تذكر مقترناً بعضها ببعض وكلام الشارح هنا عن ذكرها مقترنة مجتمعة كما في حديث جبريل عليه السلام وفي آيات فاطر، ثم وضحها بأن الإحسان أعم من جهة نفسه إلى آخره، ثم بعد ذلك ذكر مسمى الإسلام عند الناس، ولو كان قدم هذا وأخر هذا لكان أفضل.
ونبدأ نحن هنا بشرح الكلام الأول، وهو أن هذه الألفاظ الثلاثة إما أن ننظر إليها من جهة حقيقتها ومعناها في ذاتها في نفسها فحقيقة الإحسان مثلاً في ذاته أعم، وإما أن ننظر إليها من جهة الأفراد، أي: ننظر إلى عدد المؤمنين وعدد المسلمين وأيهما الأكثر وأيهما الأقل، وما الذين يدخل عددهم في العدد الآخر؟ فإما أن ننظر إلى الحقيقة والمعنى والذات، وإما إن ننظر إلى الأفراد أو الأتباع أو الموصوفين بهذه الألفاظ الشرعية، فلو نظرنا إلى المعنى والحقيقة والذات، فهل الإسلام أعم أم الإيمان؟ ونريد إن تقرر المذهب الراجح نبدأ بالأفراد؛ لأنه أوضح من جهة الأفراد أيهما أعم وأكثر أفراداً الإسلام أم الإيمان؟
الجواب: الإسلام أكثر أفراداً كما اتفق العلماء، فما دام أن الأفراد أكثر فيكون المعنى أقل وأخص، إذاً: نقول من جهة الحقيقة والمعنى أوسع شيء حقيقة من الثلاث المراتب هي الإحسان؛ لأنه يدخل فيه الأركان والواجبات والنوافل والمستحبات وكل الأعمال الظاهرة والباطنة، فكلها يشملها الإحسان، وتحقيق ذلك كله هو الإحسان، أما الإيمان من جهة ذاته ومعناه وحقيقته فهو أقل من الإحسان؛ لأنه عبارة عن دائرة داخل الدائرة الواسعة، فهو دائرة أخص؛ لأنه يشمل أداء الواجبات وترك المحرمات وامتثال الأركان إلى آخره، وليس بسعة الإحسان قطعاً، ولم ينحصر إلى أن يصبح في دائرة الإسلام، وهو الدائرة الثالثة الصغرى في الوسط؛ لأن تلك الدائرة هي فقط لمن أتى بالأركان الخمسة، وإن كان فيه بعد ذلك من الكبائر ما فيه.
فإذاً: من جهة الحقيقة والذات أو المعنى فمعنى الإحسان ومعنى الإيمان أعم وأشمل وأما الإسلام فهو أقل؛ لأنه المباني أو الأركان الخمسة فقط، لكن إذا نظرنا من جهة الأفراد تنعكس الدوائر، فتكون الدائرة الكبرى للموصوفين بالمسلمين؛ لأننا نتكلم عن الأفراد والأتباع، والمؤمنون أقل؛ لأنك تجد أن المسجد يصلي فيه ألف، والمؤمنون منهم ربما كانوا مائة، بل ربما عشرة، بل جاء في بعض الأحاديث: ( أنه آخر الزمان يجتمع الناس في المسجد الواحد ليس فيهم رجل مؤمن ) أي: يغلب النفاق على القلوب، فهم في الظاهر من أهل العبادة ومن أهل الصلاة، لكنهم لا يوجد فيهم مؤمن واحد، ويوضح هذا أننا لو قلنا: جامعة كذا طلابها ثلاثون ألف، ولو تكلمنا عن المتخرجين منها لكانوا أقل، فلو تكلمنا عن الجيدين فيه لكانوا أقل من ذلك أيضاً، وكذلك أفراد المسلمين أكثر؛ لأنهم على آخر إحصاء ألف وستمائة مليون مسلم، والمتحققون منهم بالإيمان أقل، وأضيق هذه الدرجات هم المحسنون؛ ولهذا لو قلنا يوجد في الأمة مؤمنون، لكن المحسن الذي ينطبق عليه ما جاء في الحديث: ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) فهذا أقل القليل، ومن لاحظ أصحاب اليمين والمقربين في آيات الواقعة لوجد عددهم ونسبتهم قليلة كما في الآيات: (( ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ ))[الواقعة:13-14] يعني: الصدر الأول من هذه الأمة اجتمع فيه من المقربين ومن السابقين جموع غفيرة، لكن من الآخرين وهم أصحاب اليمين فهم: (( ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ ))[الواقعة:39-40]، فهذا موجود هنا وهنا، فهذا دليل على أن أهل الإحسان قليل -وإن كانوا قليلاً- أفراداً فهم عندما يجتمعون ليكونوا جيلاً يصبحوا أعز وأقل، وبهذا يظهر فضل السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم على من بعدهم، فإنهم كانوا جيلاً بأكمله فيه الدرجة العلياء، وكان الإحسان هو الغالب عليهم، ولم يكونوا أفراداً، فالشيخ هنا عندما يقول: (فأما الإحسان فهو أعم من جهة نفسه -يعني: حقيقته ومعناه وذاته- وأخص من جهة أهله -أي: لأن أهله أقل القليل- والإيمان من جهة نفسه أعم وأخص من جهة أهله من الإسلام) فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخص من المؤمنين، وهم أقل أهل المراتب الثلاث، والمؤمنون أيضاً أخص من المسلمين.
  1. وجه الشبه بين العلاقة بين مراتب الدين والنبوة والرسالة

    ثم قال رحمه الله: (وهذا كالرسالة والنبوة، فالنبوة داخلة في الرسالة، والرسالة أعم من جهة نفسها وأخص من جهة أهلها، فكل رسول نبي ولا ينعكس) يعني: عندما نطبق هذا على الإيمان والإحسان نقول: كل محسن مؤمن، وليس كل مؤمن محسناً، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً.
    وهكذا دائماً العلاقة إذا كانت بين شيئين هي العموم والخصوص من وجه فإنها لا تنعكس، وكذلك فالنبوة والرسالة، فعلى القول المشهور: أن الرسل هم مجموعة أو صفوة من الأنبياء، فالأنبياء كثير ولكن الرسل عددهم أقل، فعلى هذا نستطيع أن نقول: إن كل رسول نبي، ولا يصح أن نقول: كل نبي رسول؛ لأننا لو قلنا ذلك أصبح لفظ النبي والرسول تعبيران مترادفين، وعلى هذا وقع الخلاف هنا؛ فإن بعض العلماء ذهبوا إلى أن كل مسلم مؤمن، وكل مؤمن مسلم فكانت النتيجة أن يقولوا بالترادف بينهما، وذهب إلى هذا الإمام البخاري رحمه الله، وهو على فضله وجلالة قدره وعلمه كان يرى ذلك، والإمام محمد بن نصر المروزي أيضاً يذهب إلى الترادف، ولكن قد ذكرنا عندما تعرضنا لآية الحجرات أنها من أوضح ما نستدل به على التغاير بين الإسلام والإيمان، فالإمام البخاري رحمه الله عندما قال هذا قرره بأن الإسلام هو الاستسلام يعني: كأنهم قالوا: استسلمنا وانقدنا بظواهرنا، ولم يسلموا على الحقيقة، وهذا مدلول ترجمته رضي الله تعالى عنه.
    والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.