المادة    
قال رحمه الله: (وأما الزيادة بالعمل والتصديق)، إذاً هذه قضية أخرى، أي: أن الإيمان يتفاوت أهله فيه، فيزيد عند البعض في حين أنه يقل عند البعض بسبب العمل والتصديق والامتثال والتنفيذ، يقول: (وأما الزيادة بالعمل والتصديق، المستلزم لعمل القلب والجوارح فهو أكمل من التصديق الذي لا يستلزمه) فكيف نعرف أن هذا أكثر تصديقاً وإيماناً من ذاك؟ حتى لو فرض أن الإيمان هو التصديق كما يقول مرجئة الفقهاء فهل كل تصديق مماثل لأي تصديق؟! وهل التصديق جنس متماثل -كما يقولون- حقيقة أو ماهية مشتركة؟ لا، فهذه نظرية فلسفية خطأ، والصحيح والحق أن التصديق الذي يستلزم العمل ويستتبع من صاحبه العمل، ويثمر الامتثال والانقياد والإذعان لما أمر الله تبارك وتعالى به أو نهى عنه، فيقوم صاحبه بأداء الفرائض وترك المحرمات، وربما تجاوز ذلك إلى أداء المستحبات وترك المكروهات، فإن هذا أعظم بلا ريب من ذلك لم يدعوه إيمانه أو تصديقه إلى مثل هذه الدرجة من الإلتزام والعمل، سواء كان عمل القلب أو عمل الجوارح، فهذا دليل على تفاوت التصديق في قلوب أهله، وإلا لما تفاوتت أعمالهم وطاعاتهم وحسناتهم وسيئاتهم، والأمة تتفاوت في هذا تفاوتاً عظيماً، سواء من آمن في هذه اللحظة أو في غيرها، فقد يؤمن مثلاً في هذه اللحظة مجموعة من الناس، ولكن هذا مستعد أن يجاهد وأن يدعو وأن يتمسك وأن يذعن في أموره كلها، والآخر دونه بقليل، وآخر دونه بقليل، وآخر وسط، وآخر ليس لديه إلا حد أدنى يحتاج إلى زيادة في الدعوة والخير، فهذا كله موجود، ولذلك تفاوت الأفراد مثل ما بين السماء والأرض، لكن في الجملة العامة للأمة هم ثلاثة أقسام بحسب الانقياد والإذعان لما أنزل الله تبارك وتعالى من الإيمان وما ادعوه، أي: المنتسبين إلى الإيمان والمتسمون باسمه، والثلاثة الأقسام هي: الظالم، والمقتصد، والسابق بالخيرات، قال تعالى: (( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ))[فاطر:32]، هذا أدنى الدرجات (( وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ))[فاطر:32] فالظالم لنفسه متوعد وداخل في الوعيد، والمقتصد هو الذي يأتي بالواجبات ويترك المحرمات، وهذا في الحقيقة لا يعني أنهم ثلاث ماهيات كما يسميها المناطقة و الفلاسفة ، أي: ثلاثة أناس: أناس ظالمون، وأناس مقتصدون يأتون بالواجبات ويتركون المحرمات، وأناس سابقون بالخيرات بإذن الله، وإنما أصحاب الوعيد الظالمون لأنفسهم متفاوتون في ذلك، فمن كان من أهل الزنى ويؤدي الصلاة مثلاً، فهو ليس كالذي يزني ويشرب الخمر، وهذا أخف ممن يزني ويشرب الخمر ويتهاون في أداء الصلاة، وأسوأ من ذلك الذي يزيد على هذا، فقد يكون عاقاً للوالدين مؤذياً للجيران مغتاباً للمسلمين، وأسوأ منه أن يكون ممن يكره المؤمنين ويحب الكافرين ويوالي الفاجرين والعياذ بالله، وهكذا فقد يكون ظلمه إلى حد يفحش جداً، وقد يكون ظالماً لنفسه بارتكابه فاحشة واحدة، وهذا في حدود درجة: (( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ))[فاطر:32].
أيضاً المقتصدون ليسوا على تماثل تام، بل منهم من فعل الواجبات وترك المحرمات، لكن استطاع أن يأتي من الواجبات الشيء الكثير مما لم يجب على غيره ولم يفعله سواه، وترك أيضاً من المحرمات ما لم يتعرض له غيره ولم يجب عليه تركه وهكذا، ثم السابقون في الخيرات هم درجة عليا، ولا شك في تفاوتهم، وأعظم الناس إيماناً بعد الأنبياء، أو أفضلهم إيماناً في هذه الأمة الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ومع ذلك هم متفاوتون في الإيمان، فإيمان أبي بكر رضي الله تعالى عنه أعلاهم، وهو أفضل من عمر رضي الله تعالى عنه، وعمر أعظم إيماناً من بقية الأمة، والخلفاء الأربعة الراشدون أعظم من بقية العشرة، والعشرة أفضل من أهل بدر ، وأهل بدر أفضل من أهل الحديبية ، وأهل الحديبية أفضل ممن بعدهم وهكذا، حتى هذه الأمة المصطفاة المجتباة السابقة في الخيرات -هم أفضل هذه الأمم وخير الناس- فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) فهم أيضاً درجات، وظهر هذا كذلك في التابعين، فالتابعون رضوان الله عنهم درجات، فمنهم من أهل الطبقة الأولى في الإيمان والعلم والدعوة كما كان سعيد بن المسيب رضي الله عنه والحسن البصري و إبراهيم التيمي و إبراهيم النخعي و علقمة تلميذ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، و مجاهد و عكرمة و عطاء و أويس وغيرهم، ثم تابعي التابعين درجات وهكذا، وهؤلاء خلاصة وصفوة الصحابة، ومقدمة التابعين، ومقدمة أتباع التابعين، هؤلاء الثلاثة القرون هم السابقون من هذه الأمة، ومع ذلك يتفاوتون في أفرادهم كما يتفاوتون في طبقاتهم، يعني: رأس طبقة التابعين لا يقارن بالأدنى من طبقة الصحابة، فالكل سابقون، لكن التفاوت بينهم حاصل وحق ولا ينكره إلا مكابر.
إذاً على هذا كيف يأتي مدعٍ أو زاعم من أي طائفة ويقول: إن إيماني كإيمان جبريل وميكائيل؟! إن هذا من فاحش القول، ومن كذب وباطل الادعاء، ويستشهد الشيخ رحمه الله على هذا بأنه ما دام أن الإيمان إذا استلزم العمل والامتثال فهو أفضل من الذي لا يستلزمه، يقول: (فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به) وهذا حق؛ لأن العلم إذا كان لوجه والذي يتقرب به إلى الله فلا بد وأن يثمر العمل، فبقدر ما يثمر من العمل ويستلزم ويستدعي من العمل، دليل على قوة هذا اليقين والتصديق في قلب صاحبه، فإذا لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم بقدره، بل ربما نجد أن الإنسان نفسه تتفاوت أحواله، فمرة يسمع الآية فيخشع قلبه، وتنطلق بالعمل بها جوارحه، ويلتزمها ويمتثلها، وأحياناً يسمع نفس الآية فلا يتحرك فيه إلا القليل مما كان قد تحرك عندما سمعها من قبل، والآية هي الآية، والقلب هو القلب، والإنسان هو الإنسان، لكن كان ذلك في حالة خمول وضعف وطائفة من الشيطان كما سيأتي، ورين من الذنوب، فلم توقع الأثر الذي أوقعته في حالة الصفاء ولمة الملك والبعد عن طيف الشيطان ونزغه.