يقول:
[وقالوا: إن الرسول قد وقفنا على معاني الإيمان، وعلمنا من مراده علماً ضرورياً أن من قيل: إنه صدق ولم يتكلم بلسانه بالإيمان، مع قدرته على ذلك، ولا صلى ولا صام، ولا أحب الله ورسوله، ولا خاف الله، بل كان مبغضاً للرسول، معادياً له يقاتله؛ أن هذا ليس بمؤمن]. وهذا من الرد؛ لأنه قال: وقد اعترض على استدلالهم -أي: استدلال
الحنفية - فيكون: (وقالوا) هنا، أي: المعترضين على
الحنفية ، وهذا تفنيداً وإبطال لما زعمته
المرجئة من أن الإيمان هو ما في القلب، تكملة لقولهم: إن الإيمان بمعناه اللغوي -الذي هو التصديق- هو الواجب على العبد حقاً لله، فإذا أداه العبد، وعرف الله بقلبه، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم بقلبه فقد جاء بالإيمان، وهذه هي شبهتهم الثانية، أما أن ينطق فهذا مجرد شرط الإجراء الأحكام الدنيوية أو علامة على ما في الباطن وقد تقدم. فالفريقان من
المرجئة في الإقرار، أي: الإقرار باللسان أهو ركن، أم شرط؟ وكيف أن المتأخرين من
الحنفية و
الماتريدية تركوا كلام
أبي حنيفة الذي يجعل الإقرار ركناً وجعلوه مجرد شرط، أو قال البعض: إنه ركن زائد، وليس ركناً أصلياً، واستدلوا على ذلك بالأخرس الذي لا يستطيع النطق، وبمن يؤمن عند النزع الأخير عند الموت، وهذا كله قد تقدم، والرد على هذه الشبهة يكون من واقع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فنقول: لو علم أن أحداً صدق النبي صلى الله عليه وسلم بقلبه، ولكنه لم يتكلم ذلك بلسانه، أو لم يظهر هذا الإقرار والتصديق، ولم يصل ويصم ويحج ويزك ويجاهد ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر، بل ما عمل شيئاً من أعمال الخير والإيمان، مع قدرته على ذلك، ثم زيادة على ذلك -كما يقول الشيخ- وأنه ما أحب الله ورسوله -لأن الغرض أعمال القلب- ولا خاف الله، بل كان مبغضاً للنبي صلى الله عليه وسلم، معادياً له يقاتله، أن هذا ليس بمؤمن. فمستحيل أن يأتي
المرجئة بمثال واحد من أن النبي صلى الله عليه وسلم عد مثل هذا النوع مؤمناً، بل حتى لو لم يعاد ولم يبغض، أو أنه عرف الحق بقلبه لكنه لم ينطق به بلسانه، فإنه يموت كافراً مثل
أبي طالب ، فإنه لم يكن مبغضاً ولا معادياً للرسول صلى الله عليه وسلم ولما جاء به، فكان كفره كفر امتناع، وما استكبر عن الحق، فلم يطب نفساً بأن يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله على سبيل الانقياد والإذعان، لكن لو طلبها منه النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الإخبار عما في القلب لقال
أبو طالب : أشهد أنك رسول الله، ويشهد بذلك ويقولها لقريش، وليس عنده مانع منها، أي: إخبار أنه يعتقد صدقه، لكن لا على سبيل الانقياد والإذعان، والدخول في دينه المقتضى بالضرورة التخلي عن ملة
عبد المطلب ، والكفر بملة
عبد المطلب ، ولذلك قال: ولولا أن يعيرني قومي لأرضيتك بها، فخشي أن يعيره قومه، ويقال: إنك يا
أبا طالب ! تركت ملة
عبد المطلب فرقاً من الموت وإرضاءً لمحمد، إذاً هناك فرق بين هذا وهذا، والمقصود هنا أنه حتى لو لم يشتمل قلبه على المعاداة والبغض، لكنه لم يقر في قلبه إقراراً متضمناً للانقياد والإذعان، فإنه لا يكون مؤمناً، ولا يعد من المؤمنين، وعليه فلا يجد
المرجئة مثالاً واحداً في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر فيه أو عد فيه من صدق بالقلب فقط، ولم يعمل أي عمل من أعمال الإيمان، ولم يقر ولم يتكلم اعتبر ذلك مؤمناً، و
أبو طالب يصرح بالتصديق كما في الأبيات:
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناًلولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناًقوله: ولوجدتني سمحاً مبيناً على سبيل الانقياد، وأما على سبيل الإخبار، أي: نسبه المخبر إلى الصدق، كأن إنسان بخبر فقلت: هذا صادق، فهذا القدر لا يسمى إيماناً، فأنت صدقته لكن ليس بالضرورة أنك اتبعته وآمنت به، فـ
أبو طالب وغيره من المشركين يصدقون النبي صلى الله عليه وسلم في هذا القدر، لكنهم لم ينقادوا ولم يتبعوا ولم يذعنوا ولم يؤمنوا بقلوبهم وجوارحهم، ولذلك امتنع عن النطق لعلمه أنه يستلزم البراءة من ملة
عبد المطلب. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.