المادة    
‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد قال المصنف رحمه الله تعالى: (والاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة اختلاف صوري، فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب، أو جزءاً من الإيمان، مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، نزاع لفظي، لا يترتب عليه فساد اعتقاد، والقائلون بتكفير تارك الصلاة ضموا إلى هذا الأصل أدلة أخرى، وإلا فقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر والمنتهب، ولم يوجب ذلك زوال اسم الإيمان عنهم بالكلية اتفاقاً.
ولا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل، وأعني بالقول: التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، وهذا الذي يعنى به عند إطلاق قولهم: الإيمان قول وعمل، لكن هذا المطلوب من العباد: هل يشمله اسم الإيمان أم الإيمان أحدهما، وهو القول وحده، والعمل مغاير له لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر، وإن أطلق عليهما كان مجازاً؟ هذا محل النزاع.
وقد أجمعوا على أنه لو صدَّق وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه: أنه عاص لله ورسوله، مستحق للوعيد، لكن فيمن يقول: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان من قال: لما كان الإيمان شيئاً واحداً، فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق و عمر رضي الله عنهما! بل قال: كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبرائيل وميكائيل عليهم السلام! وهذا غلو منه، فإن الكفر مع الإيمان كالعمى مع البصر، ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه، فمنهم الأخفش والأعشى، ومن يرى الخط الثخين دون الدقيق إلا بزجاجة ونحوها، ومن يرى عن قرب زائد على العادة، وآخر بضده).
المقصود أن عبارة الشارح رحمه الله هنا، وهي منقولة عن شيخ الإسلام في بعض مواضع من كتاب الإيمان قد أوقعت في اللبس وفي الإيهام، خاصة أن المصنف يقول: إن الاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين اختلاف صوري، فهذا ما يقرره الشيخ الشارح رحمه الله، ويعلل ذلك فيقول: (فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب أو جزءاً من الإيمان)، والأعمال عند أهل السنة والجماعة أجزاء من الإيمان ويطلق الإيمان، حقيقة على كل شعبة من شعب الإيمان، وعلى كل عمل من أعمال الطاعات، فتسمى الصلاة إيماناً، ويسمى الأمر بالمعروف إيماناً، ويسمى إكرام الضيف إيماناً، ويسمى قيام ليلة القدر إيماناً، ويسمى إطعام الطعام إيماناً، ويسمى إماطة الأذى عن الطريق أيضاً شعبة من الإيمان وهكذا.
قال المصنف رحمه الله: (كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب -هو مذهب الحنفية- أو جزءاً من الإيمان هو مذهب أهل السنة والجماعة عامة- مع الاتفاق -بين الطرفين- على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، نزاع لفظي لا يترتب عليه فساد اعتقاد) فهنا جعل المصنف الخلاف لفظياً؛ لأنه نظر إلى الحكم على مرتكب الكبيرة في الآخرة، وإذا كان فقط النظر إلى أن مرتكب الكبيرة في الآخرة عند الله على ما يعتقد أهل السنة والجماعة و المرجئة الفقهاء أنه تحت المشيئة، فالخلاف فعلاً لفظي أو صوري، لكن ليس هذا هو الجانب الوحيد الذي ينظر إليه، وإنما كان النظر إلى هذا الجانب وحده، أي: الحكم على مرتكب الكبيرة، وكونه لا يخلد في النار، وأن أكثر المتكلمين في هذه المسألة يتكلمون فقط في هذا الموضوع، وكأنها هي القضية وحدها، وما ذلك إلا بسبب ظهور مذهب الخوارج وما أحدث من بلبلة في الأمة، فـالخوارج من جهة، والمعتزلة من جهة، فثارت المشكلة وصارت بلبلة، فالبعض ينظر إلى القضية من زاوية واحدة، ويرى أن المهم عنده هو أن لا يحكم على مرتكب الكبيرة بالكفر والخروج من الملة والخلود في النار، لكن كونها كما قال: جزءاً من الإيمان، أو لازماً للإيمان، فيرى أنها لا تهم، وهذه نظرة بعض الناس، لكن ينبغي أن ينظر إلى الأمر من جميع زواياه ومن جميع جوانبه، فيقال: هل يعتبر مرتكب الكبيرة كامل الإيمان؟ نحن لا نعتبره كامل الإيمان، لكن الحنفية يعتبرونه كامل الإيمان، وهذا خلاف حقيقي، أيضاً في الاستثناء، وفي الزيادة والنقص، وفي اسمه، أي: هل يطلق على مرتكب الكبيرة اسم المدح فيقال له: مؤمن ويسكت، أم لا بد أن يقيد؟ إذا قيل: مؤمن، فالمقصود به: مسلم غير كافر، وليس هو الثناء والمدح الذي وصف الله به أوليائه المؤمنين في قوله تعالى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ))[الأنفال:2]، وقوله: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ))[الحجرات:15] وآيات كثيرة.
يقول: (لا يترتب عليه فساد اعتقاد) أي: لا يطلق على أحد القائلين بهذا أنه موافق لمذهب الخوارج أو مذهب المعتزلة ، وهذا قصده، وهو صحيح بالنسبة لحكمه في الآخرة، إذ إنه لا يطلق عليه أنه كأحد المذهبين.
  1. بيان وجه القائلين بتكفير تارك الصلاة

    يقول: (والقائلون بتكفير تارك الصلاة ضموا إلى هذا الأصل أدلة أخرى) أي: الذين يرون تكفير تارك الصلاة لا يكفرونه لمجرد أنه تارك للعمل حتى يكونوا كـالخوارج ، وإنما ضموا إلى هذا الأصل المقرر هنا -أن تارك الصلاة مرتكب كبيرة- أدلة خاصة فيها التصريح بأن تارك الصلاة كافر كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر )، وقد سبق أن تحدثنا في هذا الموضوع كاملاً، وذكرنا الأدلة عليه، والمصنف رحمه الله تعالى يقول: ليست القضية إذاً مجرد ترك للعمل، أي: لولا الأدلة الأخرى الخاصة بتكفير تارك الصلاة لكان تارك الصلاة مجرد مرتكب لكبيرة من الكبائر، وبالتالي فلا يكفر بذلك، هذا ما قرره المصنف هنا، وفي الحقيقة أن أهل السنة والجماعة يرون أن ترك الصلاة كفر بإجماع الصحابة، وقد ثبت نقل الإجماع نقلاً صحيحاً عن الصحابة رضي الله عنهم من أكثر من طريق، وسبب ذلك أنها ليست كأي عمل من الأعمال، إذ إن من ترك الصلاة لم يقبل منه أي عمل سواها، وتارك الصلاة هو تارك لركن العمل، فهل تقبل منه زكاة وهو لا يصلي؟ وهل يقبل منه صيام وهو لا يصلي؟ وهل يقبل منه حج وهو لا يصلي؟ فإذا كانت الأركان لا تقبل فكيف ببقية الأعمال التي هي واجبات؟! فلذلك تارك الصلاة هو تارك لجنس ولركن العمل، ومن هنا فإنه لا يكون مؤمناً أبداً، لكن المقصود هو الترك المستديم، فمن كان يصلي مرة ويدع مرة أو يوماً أو أسبوعاً، فهذا حكمه حكم المنافق الذي يدخل في الإيمان تارة ويخرج منه أخرى، فإذا صلّى فقد أسلم حقيقة، وإذا ترك فقد كفر، وفي ظاهر الحال يُعامل الناس على الظاهر، فهذا يكون في ظاهره مسلم، لكنه في الحقيقة لو مات وهو في حالة الترك فإنه يموت على الكفر والعياذ بالله، وهذا من أسوأ أنواع سوء الخاتمة.
  2. الفرق بين تارك الصلاة ومرتكب إحدى الكبائر فيما يتعلق بالإيمان

    يقول: (وما دام الأمر كذلك؛ فإنه ليس كل من نفي عنه الإيمان يكون كافراً، فتارك الصلاة له أدلة خاصة، وإلا فقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر والمنتهب، ولم يوجب ذلك زوال اسم الإيمان عنهم بالكلية اتفاقاً)، وهذا الكلام لا بد أن يلاحظ عليه، وأول ما يجب أن يلاحظ عليه: الفرق بين تارك الصلاة ومرتكب إحدى هذه الكبائر، والسبب هو: أن تارك الصلاة تارك لركن وجنس العمل، أما أن يزني العبد أو يشرب الخمر أو ينتهب النهبة كما جاء في الحديث، فهذا يمكن أن يقع وهو مؤد لأركان الإسلام الخمسة، كما أنه لا شك أيضاً أن فعل جنس المأمورات أفضل من ترك جنس المنهيات، والأصل هو المأمورات والفرائض، وهذا فرق آخر بين تارك الصلاة وبين من يزني أو يشرب الخمر وما أشبه ذلك.
    وأمر آخر: أن تارك الصلاة جاء التصريح بكفره، وأما هذا فغاية ما ورد فيه نفي الإيمان عنه، وفرق بين من يصرح الشارع بكفره، وبين من ينفي عنه الإيمان؛ لأن التصريح بالكفر لا يحتمل إلا أن يكون قد خرج من الملة، أما أن ينفي عنه الإيمان فيمكن أن يكون له تفسير آخر، ومن ذلك: أن هذا الحديث تصل الأقوال فيه إلى خمسة عشر قولاً، وهو حديث رواه أكثر دواوين الإسلام إن لم يكن كل كتب السنة تقريباً، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب النهبة حين ينتهبها وهو مؤمن )، وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في تفسيره لهذا الحديث: [إن الإيمان يرتفع عنه حتى يصير كالظلة وهو في حالته هذه].
    والفرق بين السارق والمنتهب: أن السارق يأخذ المال خفية من حرز، إلى آخر ما يشترطه الفقهاء في ذلك، أما المنتهب فهو الذي يأخذه علانية واختطافاً، حتى إن الناس يرفعون إليه أبصارهم، فيرونه وهو يأخذ مال أخيه ولا يبالي، بل قد يهرب وينكر أنه أخذه، والمقصود أن هذه الكبائر حكمها واحد، وهو أن العبد حين يفعل ذلك لا يكون مؤمناً، ولا يعني هذا أن الإيمان يسلب منه بالكلية في كل الأحوال، فهذا أيضاً مما يفرق به بين من يفعل هذه الكبائر ومن يترك الصلاة، فإذاً أهل السنة والجماعة عامة من جهة، والحنفية من جهة لا يرون تكفير مرتكب الكبيرة ولا تخليده في النار، فهم يخالفون الخوارج ويخالفون المعتزلة ، ومتفقون في الآخرة أن أمره إلى الله، فهو تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، لكن هذا لا يعني بحال من الأحوال إطلاق القول بأن الخلاف لفظي أو صوري؛ لأن للخلاف جوانب أخرى يظهر بها أنه حقيقي، وهذه قضية مهمة.
  3. اتفاق أهل السنة عموماً والأحناف على أن الله أراد من العباد القول والعمل

    والقضية الأخرى ينتقل الشارح رحمه الله ليزيد الأمر وضوحاً في وجهة نظره، فيقول: (ولا خلاف بين أهل السنة عموماً -أي أن الحنفية وغيرهم- أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل)، أي أن العبارة التي تنقل عن المرجئة وهما قولهم: لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، أن هذه العبارة كما ذكر شيخ الإسلام لم تثبت عن قائل معين منهم، وإنما تنقل في كتب الفرق هكذا، فيقول الشيخ: هذه العبارة لا يقرها ولا يؤمن بها مرجئة الفقهاء أو المرجئة الحنفية ، بل هم يعتقدون أن المعاصي تضر، وأن الله سبحانه وتعالى أراد منا الإيمان والعمل، أو أراد منا الإقرار والعمل أو التصديق والقول والعمل، وبالتالي فهو يقول: هذا قدر أيضاً مشترك بين أهل السنة جميعاً، أحناف وغير أحناف: وهو أن الله سبحانه وتعالى أراد منا القول والعمل، فلو جاء قائل وقال: إن الله ما أراد العمل، وإنما أراد منا التصديق فقط والإقرار، لكان هذا خارجاً عن أقوال أهل السنة ، فيكون الخلاف مع هذا خلافاً حقيقياً، أما أولئك فالخلاف صوري أو لفظي لاتفاقهما أن العمل مطلوب، إذاً فيم اختلفوا؟ يقول: (وهذا الذي يعنى به عند إطلاق قولهم: الإيمان قول وعمل، لكن هذا المطلوب من العباد -وهو العمل-: هل يشمله اسم الإيمان أم الإيمان أحدهما، وهو القول وحده، والعمل مغاير له؟)، فالحنفية لا يرون أن الإيمان يشمل الأمرين، وإنما يشمل عندهم جانب القول الذي هو الاعتقاد والإقرار باللسان، أما عمل الجوارح فلا يشمله، وكأن الأمر هين، وبالتالي فكلاهما يقول: إن الله تبارك وتعالى أراد منا العمل، وطلب منا أن نعمل، وإنما الفرق أن الحنفية يقولون: إن عمل الجوارح لا يدخل ولا يشمله اسم الإيمان، وإنما هو لازم أو ثمرة له، لكن الله تعالى أمر به وطلبه، ويجازي عليه إن كان إحساناً فإحساناً، وإن كان تقصيراً فيجازي عليه بالعقوبة.
    إذاً من هذا الكلام نستطيع أن نقول: إن الشارح يحترز من قول المتأخرين من الأشعرية والماتريدية الذين يقولون: إن الإيمان بالزكاة والصلاة والأعمال الأخرى يعني الإقرار بوجوبها والإذعان النفسي والانقياد النفسي لأدائها وليس فعلها، فالشارح رحمه الله هنا يحترز فيقول: ليس هذا مذهب الحنفية، فلو أن أحداً قال: إن الله تعالى إنما طلب منا وأراد منا أن نقر بوجوب الصلاة وبوجوب الزكاة وجميع الواجبات، وأن نقر بتحريم جميع المحرمات، وهذا هو الإيمان المطلوب الذي يكفي، فنقول: لا، إذ إن الخلاف هنا حقيقي، وليس هذا هو المقصود، لكن وجد من المتأخرين من توهم ذلك، حتى أصبح يفسر أركان الإيمان وأركان الإسلام الخمسة بأنها مجرد الإذعان القلبي لأداء الفرائض، وليس أن تفعل هذه الفرائض، ولذلك في رواية صحيحة عند ابن مندة في حديث جبريل الطويل: قال: ( أخبرني عن الإسلام؟ قال: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ) ، ثم قال: ( فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: نعم ) ، ومثله في الإيمان عندما سئل عنه، قال: ( فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال: نعم ).
    إذاً فـ حقيقة الإيمان المطلوب شرعاً: هو الامتثال بالفعل، أي: تشهد وتصلي وتصوم وتزكي وتحج.. إلخ أما مجرد اعتقاد أن هذه واجبات فلا يكفي، ولا يكون الإنسان به مسلماً ولا مؤمناً، ثم نقول: إن المتأخرين من الحنفية يرون أن ترك الأعمال مؤثر، فهم يقولون: إن الله تبارك وتعالى طلب منا العمل كما طلب منا القول، وهذا صحيح، لكن الخلاف مع متقدميهم في كونهم يخرجون الأعمال، ويجعلون الإيمان هو القول فقط، وهذا خلاف حقيقي بينهم وبين أهل السنة والجماعة، ولذلك يقول: (هل يشمله اسم الإيمان -أي هل هذا هو المطلوب من العباد- أم الإيمان أحدهما، وهو القول وحده، والعمل مغاير له لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر، وإن أطلق عليهما كان مجازاً؟ هذا محل النزاع).
    إذاً من قال بتسمية الأعمال إيماناً مجازاً فالخلاف معه حقيقي ولا يكون لفظياً، فمن قال: أنا أسمي هذه الشعبة من شعب الإيمان، كقيام رمضان، أو قيام ليلة القدر، أو إكرام الضيف، وغير ذلك من التراجم الكثيرة التي جعلها الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، من قال: إنها إيمان على الحقيقة فقد قال بما صرحت به الأحاديث، وأما من قال: إن إطلاق الإيمان عليها مجرد مجاز، فالخلاف معه حقيقي وليس خلافاً هيناً؛ لأن إطلاق المجاز فيه ما فيه، وله مباحث أخرى في رده ونقضه، ولابد له من دليل، وغايته أن يكون ظناً، أي: أن يكون هذا من إطلاق الظن، ومن تفسير كلام ونصوص الوحي بمجرد الظن، فلماذا يعدل عن الاسم الصريح الواضح الثابت في الحديث إلى أن يقال: إنه مجاز بمجرد ظن واحتمال، فيكون الخلاف على هذا حقيقياً.
    وأيضاً مما يقوله الشيخ وهو امتداد للكلام السابق ليؤكد أن الخلاف هين: (وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه: أنه عاص لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، مستحق للوعيد)، وهنا يريد أن يأتي بمواضع الاتفاق بين عامة أهل السنة وبين الحنفية، فيقول: كلاهما متفقان على أن من صدق بقلبه وأقر بلسانه وامتنع عن العمل بجوارحه: أنه عاص لله ورسوله مستحق للوعيد.
    إذاً فهناك فرق كبير بين الطائفتين، ويكون هذا الذي لم يأت إلا بإقرار القلب واللسان عند أهل السنة والجماعة كافراً، لأنه ترك العمل بالكلية، وترك جنس العمل، وتارك جنس العمل لا يكون مؤمناً، وهو مستحق للوعيد، أي: وعيد الكفار، والحنفية يقولون: هو مستحق للوعيد، أي: وعيد العصاة، وفرق بين القولين، فمجرد أنه يجمعنا القول بأنه مستحق للوعيد لا يكفي؛ لأن المهم هو جنس الوعيد، إذاً لا شك أن تارك العمل بالكلية عند أهل السنة والجماعة هو تارك للإيمان فيكون كافراً، ويكون وعيده وعيد الكفار، أما عند الحنفية فإنه إنما ترك اللوازم، أو ترك ثمرات الإيمان، ويكون مستحقاً للوعيد، ووعيده وعيد العصاة، وهذا وحده دليل على أن الفرق حقيقي أيضاً وليس صورياً كما يريد الشارح أن يقرره رحمه الله.
  4. غلو طائفة من الحنفية في باب الإيمان والرد عليها

    ثم أخذ يبين أن طائفة غلت من الحنفية، وأنها لا اعتبار لكلامها، فيقول: (لكن فيمن يقول: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان من قال: لما كان الإيمان شيئاً واحداً، فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق و عمر رضي الله عنهما، بل قال: كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبريل وميكائيل عليهم السلام! وهذا غلو منه).
    فالمصنف رحمه الله تعالى يقول: ليس كل الحنفية يعتقدون هذا، إذ هو غلو ونحن لا نقره، بل نحن معاشر الحنفية نرده ونرفضه.
    إذاً: من الغلو أن نقول: ما دام أن الإيمان شيء واحد وأنا مؤمن، فإذاً إيماني كإيمان جبريل أو ميكائيل أو غيره، وهذا كما في كتاب العالم والمتعلم المنسوب للإمام أبي حنيفة ولذلك ينبغي أن يسأله المتعلم: لماذا لا نكون سواء في الأجر ما دمنا آمنا بما آمنوا به؟!
    فهذا الكلام يرده ويرفضه الشيخ رحمه الله تعالى ويقول: لا يجوز لأحد أن يقول بأن إيمانه كإيمان جبريل، أو كإيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولهذا عندما يقرأ أحد في أي كتاب من كتب العقيدة أقوال الأئمة في ذم المرجئة؛ فإنه يدخل فيهم: مرجئة الفقهاء الحنفية، ومن الأدلة على ذلك أنهم يذكرون أن الإمام البخاري رحمه الله في ترجمة ابن أبي مليكة نقل عنه أنه قال: [أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخشى على نفسه النفاق، ما منهم أحد يقول إيماني كإيمان جبريل وميكائيل] والمقصود أن هذه الكلمة غلو، وقد أصبحت كأنها علم، فمن قال: إن إيماني كإيمان جبريل وميكائيل، فهو مذموم عند السلف، ولا يمكن أن يقول ذلك أحد منهم، ولذلك نجد ذم هؤلاء في كتب العقيدة، كـالشريعة مثلاً للآجري ، و الإيمان لـأبي عبيد، أو الإيمان لـابن أبي شيبة، أو السنة لـعبد الله بن الإمام أحمد أو اللالكائي وتذكر هذه العبارة على أنها من أوضح ما يدل على فساد مذهبهم، وهي قول بعضهم: إن إيماني كإيمان جبريل! فهم بنوا ذلك على النظرية الفلسفية، وإن لم يبينوا عنها في أول الأمر، لكن المتأخرين وضحوها، أي قال: إنني آمنت بمثل ما آمنوا به، وصدقوا بمثل ما صدقنا، كما قال المصنف: (كأنه أصل الإيمان، وأهله في أصله سواء) أي: كأن أصل الإيمان واحد وما عدا ذلك زيادة، وهذه الشبهة التي أوقعتهم في هذا، واشتد نكير السلف الصالح رضوان الله عليهم على هؤلاء القوم، وعظموا هذه البدعة، وما كانت المسألة مجرد قول أو قدح أو ذم، بل إنهم ردوا شهادتهم بها، والقاضي المعروف شريك بن عبد الله رحمه الله جاء إليه رجل من كبار أئمتهم ليشهد فقال: لا أقبل شهادته، فقالوا: لم؟ قال: لا أقبل شهادة من يقول: إن الصلاة ليست من الإيمان، بل إنهم هجروهم أيضاً، وبالتالي ليست المسألة مجرد أنهم ذموا المذهب، وإنما حتى الأفراد عاملوهم بالهجر وبترك الكلام معهم وترك مجادلتهم وترك قبول شهادتهم وغير ذلك؛ لأن هذا الكلام خطير، والقول به يستتبع أموراً لا يقرها من عرف حقيقة الإيمان، ولهذا المصنف رحمه الله يقول: (وهذا غلو منه)، أي: من هؤلاء القائلين، ثم وضح ذلك بقوله: (فإن الكفر مع الإيمان كالعمى مع البصر) فهو ما أجابهم بأجوبة نقلية نصية، وإنما ذكر لهم مثالاً عقلياً، فقال: فإن الكفر مع الإيمان، أي: الكفر بالنسبة للإيمان كالعمى بالنسبة للبصر، فالناس يتفاوتون فيه، يقول: (ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه) ونسب التفاوت عند الأطباء معروفة، فمن الناس من يأخذ النسبة كاملة، ومنهم من يكون أقل، فالتفاوت موجود، فيقول: لا بد أن الإيمان كذلك، قال: (فمنهم الأخفش والأعشى، ومن يرى الخط الثخين دون الدقيق إلا بزجاجة ونحوها، ومن يرى عن قرب زائد على العادة، وآخر بضده) فهذا أمر معروف عند الناس، فمنهم ضعيف البصر جداً، ومنهم من هو أقل ضعفاً، لكن لا يكاد يرى إلا الواضحات، ومنهم من لا يقرأ إلا الخط الثخين، وآخر لا يقرؤه إلا بزجاجة، وقد كانوا قبل النظارات يستخدمون الزجاج ليكبر الخط، ومنهم من يرى عن قرب أكثر، ومنهم عن بعد، والمقصود أن تفاوت أهل البصر في الإبصار حقيقة واضحة، فكذلك الإيمان يتفاوت أهله فيه، والكفر هو الظلام، فكما أن بعض الناس لا يرى شيئاً مطلقاً، أي: يعيش في ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها، فكذلك هذا الكافر المطبق عليه كفره والعياذ بالله، ويوجد من هو أقل، أي: الذي خرج من حدود الكفر، ولكنه رانت على بصيرته الذنوب والمعاصي والشبهات والشهوات، فهو لا يكاد يرى إلا بصيصاً قليلاً، ومنهم من هو أحد منه، ومنهم من هو أكثر إلى أن يصبح ممن يرى أصغر أو أدق الأشياء بما اكتمل من إيمانه.