المادة    
والمقصود أن هذه نماذج تبين أن هؤلاء الصوفية الذين يزعمون ويدعون المحبة، ويدعون أن الله لما أحبهم أسقط عنهم التكاليف، وأنهم يرون الله ويخاطبونه في الدنيا؛ هم في الحقيقة زنادقة، ولو بحثت في أي كتاب من كتب الصوفية التي تكلمت عن الأولياء أو عن الكرامات أو عن المقامات والأحوال لوجدت كلام هؤلاء القوم هذا، يقولون: إنهم أحبوا الله، فلما أحبوه أسقط عنهم هذه التكاليف، ولهذا استحلوا اللذائذ المحرمة، فاستحلوا الغناء والاختلاط بالنساء والخلوة بهن وبالمردان على أن ذلك من باب المحبة والتذكير بالمحبوب في نظرهم، وأنهم عندما أحبوا هؤلاء إنما أحبوا المحبوب الحقيقي وهو الله، ثم لا يتقيدون بعد ذلك بحلال ولا حرام، فمن هنا كان دينهم الرقص والسماع، فيفضلون سماع الألحان على سماع القرآن، وكان الغزل هو الستار الذي يتسترون به لإخفاء هذه العقيدة الضالة حتى ظهر بعد ذلك ابن الفارض و ابن عربي وأمثالهما فأظهروا هذا الغزل صريحاً مكشوفاً، فاستحلوا كل شيء، وأنكروا مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وتطاولوا على مقام الصديقين وأولياء الله الصالحين بما ادعوه وزعموه لأنفسهم، وجعلوا غاية الولاية هو الوصول إلى هذه المحبة المزعومة.
فشوقهم للغناء والسماع كشفت عنه كلمة عظيمة للإمام الشافعي رحمه الله عندما سأل عن التغبير، والتغبير هو نوع من أنواع المعازف واللهو، فقال: إنما أحدثه الزنادقة، فالإمام الشافعي يطلق عليهم ما أطلقه عليه الإمام خشيش ، وهو أن هذا من فعل الزنادقة ومن إحداثهم؛ إذ ما عرف عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن السلف الصالح أنهم عبدوا الله بالمعازف وآلات اللهو والطرب، وإنما يتعبد بها أولئك الزنادقة، ومع هذا لا يرضون بهذا الاسم، وإنما يعتقدون الولاية، ويزعمون أن من عبد الله بهذه العبادة فهو أفضل الأولياء وأعلى الصديقين مقاماً.
فالقوم يسترون عقيدتهم الهندوسية القديمة التي يعتقدون بها أن الوجود واحد، أو أن غاية ما يسعى إليه العباد -كما يعتقد الهندوس - أن تتحد هذه النفوس بالنفس الكلية، وهي براهما الإله الكلي عند الهندوس ، ولما كانت هذه عقيدتهم جعلوا درجات الناس وأحوالهم ومقاماتهم بحسب منزلتهم من هذا، وتنكبوا الصراط المستقيم، ولم يعبدوا الله لا بالخوف ولا بالرجاء، وإنما يتسترون بهذه المحبة، ولو كانوا يحبون الله المحبة الإيمانية الحقيقية لأحبوا دين الله ولأحبوا رسول الله ولأحبوا سنته؛ لأن الله هو الذي شرع لنا كيف نحبه، ولسنا نحن الذين نحب الله كما نشاء.
ثم إنا نقول لهم: إذا كنتم تقولون: إنكم تعبدون الله حباً فيه، ولا تريدون الجنة ولا تريدون النار؛ فقد كابرتم ما جبلت عليه النفوس؛ لأن النفوس جميعاً تعبد الله ترجو الثواب وتخاف من العقاب، وأنتم تقولون: لا تريدون شيئاً تلتذون به، وإنما تريدون رضاه فقط، وهو الذي يرضى لكم ذلك! لو تأملتم لوجدتم أنكم تلتذون بهذا السماع وبهذا الرقص الذي تتعبدون الله به، وتلتذون بارتكاب المحرمات والخلوة بالنساء وما أشبه ذلك! والأمثلة كثيرة جداً.
فالحقيقة أنهم يطلبون حظ أنفسهم، ولهذا قال فيهم بعض العلماء مقالة عظيمة، قال: إن الناس يعبدون الله، وأما هؤلاء فإنهم يعبدون أنفسهم ولا يعبدون الله، فهم لا يتقيدون بأوامر الله ولا بنواهيه، وإنما يعبدون حظوظ أنفسهم.
وهناك جانب آخر غير جانب السماع والرقص وما يتعلق به، وهو جانب التعظيم والرئاسة، فلو كانوا يعبدون الله حقاً ويحبون الله حقاً فلم يسعون إلى تعظيم أنفسهم؟! حتى إنهم يتقاتلون على المريد، فكل منهم يريد أن يكون المريد له وحده!
والأمثلة على ذلك كثيرة جداً في حياتهم، فكل طريقة تفتخر على الطرق الأخرى وتزعم أنها هي الحق وأن الناس يجب أن يكونوا مريدين لها، والشيخ يتحكم في المريد، حتى قالوا: كن له كالميت بين يدي الغاسل، ولا تعترض على الشيخ حتى في سرك. وذكروا نماذج كثيرة لأناس اعترضوا على المشايخ في قلوبهم فكانت العقوبة أن محي العلم من قلوبهم حتى الفاتحة والعياذ بالله، فكيف يقال: إن هؤلاء يريدون الله ويريدون تعظيم الله؟! بل هم في الحقيقة إنما يعظمون أنفسهم ويريدون الإجلال لأنفسهم، نسأل الله العفو والعافية إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.