وإذا أردنا أن نعلم أصل التصوف وأصل هذه المحبة المدعاة التي تؤدي بصاحبها إلى الزندقة فلنرجع إلى علماء
أهل السنة والجماعة الذين ألفوا في الفرق، وأقدم كتاب كتب في الفرق كتبه عالم من علماء
أهل السنة والجماعة هو الإمام
خشيش بن أصرم المتوفى سنة (253هـ) وكتابه هو:
الفرق والملل ، وقد كان رحمه الله معاصراً للإمام
أحمد ، وهو من شيوخ
النسائي و
أبي داود ، عالم ثقة معروف بالحفظ والتوثيق، ذكره العلماء وترجموا له كما في
تهذيب الكمال وغيره، وقد فقد الكتاب، ولكن الإمام
أبا الحسين الملطي رحمه الله تعالى جمع كلامه هذا في كتابه المعروف (
الرد والتنبيه ) وفيه يقول: (قال
أبو عاصم خشيش بن أصرم : ثم تشعبت كل فرقة من هذه الفرق على فرق كان جماعها الأصل، ثم اختلفوا في الفروع فكفر بعضهم بعضاً)، وأول فرقة ذكرها: الزنادقة، قال: (فافترقت الزنادقة على خمس فرق، وافترقت منها فرقة على ست فرق، فمنهم
المعطلة)، فلم تكن كلمة (الصوفية) في زمانه قد ظهرت واشتهرت، وإن كانت قد وجدت، لكنها كانت لقباً لبعضهم، مثل
أبي هاشم الصوفي ، و
أبي حمزة الصوفي وأمثالهم.يقول: (فمنهم
المعطلة الذين يزعمون أن الأشياء كائنة من غير تكوين، وأنه ليس لها مدبر ولا مكون …) إلى آخر ذلك، وهؤلاء هم
الفلاسفة ، والفلسفة والتصوف شيء واحد، ولذلك تجد أن
ابن عربي أشهر المتصوفين المتأخرين هو في الحقيقة فيلسوف، وهو في نفس الوقت زنديق يدعي المحبة، فهم أوجه لعملة واحدة. قال: (ومنهم
المانوية) وهذه فرقة قديمة نشأت قبل الإسلام، وهم الذين يزعمون أن للكون خالقين: خالقاً للخير وخالقاً للشر. قال: (ومنهم
المزدكية) الذين هم أصل مذهب
الشيوعية ، وهم صنف من الزنادقة زعموا أن الدنيا خلقها الله خلقاً واحداً، وخلق لها خلقاً واحداً وهو آدم جعلها له يأكل من طعامها ويشرب من شرابها ويلتذ بلذائذها، فلما مات آدم جعلها ميراثاً بين ولديه بالسوية ليس لأحدهما فضل في مال ولا أهل، وهذه العبارات كأنها عبارات
ماركس و
لينين ، فهذه هي
الاشتراكية ، فكل يعمل بحسب طاقته ويأخذ بحسب حاجته كما يزعمون. قال: (ومنهم
العبدكية ، زعموا أن الدنيا كلها حرام محرم لا يحل الأخذ منها إلا القوت من حين ذهب أئمة العدل، ولا تحل الدنيا إلا بإمام عادل، وإلا فهي حرام ومعاملة أهلها حرام، فحل لك أن تأخذ القوت من الحرام من حيث كان، وإنما سموا
العبدكية لأن
عبدك وضع لهم هذا ودعاهم إليه وأمرهم بتصديقه). و
عبدك هو رجل صوفي مترجم له في
تاريخ بغداد وفي
لسان الميزان ، وكان معاصراً لـ
خشيش ، والكلام عنه قليل جداً وغامض، ولكنه وضع ذلك وسمى نفسه (
عبدك)، حتى إذا دعاه أحد قال له: (يا
عبدك )؛ لأن
الصوفية تعتقد وحدة الوجود، فهو يرى أن كل من نطق وكل من ناداه ينطق عن الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.ثم قال: (ومنهم
الروحانية ، وهم أصناف، وإنما سموا
الروحانية لأنهم زعموا أن أرواحهم تنظر إلى ملكوت السموات] وهؤلاء هم
الصوفية، قال: (وبها يعاينون الجنان) وتسرح في الجنة (وسموا أيضاً
الفكرية ؛ لأنهم يتفكرون -زعموا- في هذا حتى يصيروا إليه، فجعلوا الفكر بهذا غاية عبادتهم ومنتهى إرادتهم، ينظرون بأرواحهم في تلك الفكرة إلى هذه الغاية، فيتلذذون بمخاطبة الله لهم ومصافحته إياهم ونظرهم إليه فيما زعموا). قال: (ومنهم صنف -من
الروحانية - يزعمون أن حب الله يغلب على قلوبهم وأهوائهم وإرادتهم حتى يكون حبه أغلب الأشياء عليهم)، أي: أنه لا يحركهم إلا الحب، فكل حركاتهم وأعمالهم لا تتحرك إلا بالحب، وهذا الذي يصدق عليه أنه عبد الله بالحب وحده. يقول: (فإذا كان كذلك عندهم كانوا عنده بهذه المنزلة) أي: كانوا عنده بمنزلة الخليل المحبوب (ووقعت عليهم الخلة من الله، فجعل لهم السرقة والزنا وشرب الخمر والفواحش كلها على وجه الخلة التي بينهم وبين الله، لا على وجه الحلال، ولكن على وجه الخلة كما يحل للخليل الأخذ من مال خليله بغير إذنه، منهم
رباح و
كليب) وهو في الحقيقة
رياح ، و
كليب هذا لم أجد له ترجمة مستقلة، ولكنه يذكر مع
رياح ومع
عبدك دائماً، ومن المعلوم أن الزنادقة الأوائل مجهولون؛ لأنه لم يظهر أمرهم فيما بعد. يقول: (منهم
رياح و
كليب ، كانا يقولان بهذه المقالة ويدعوان إليها). قال: (ومنهم صنف من
الروحانية زعموا أنه ينبغي للعباد أن يدخلوا في مضمار الميدان حتى يبلغوا إلى غاية السبقة من تضمير أنفسهم وحملها على المكروه). يقولون: العبادة ميدان نتسابق فيه، ولا يمكن أن تسبق في الميدان إلا بالتضمير الذي هو تجويع الخيل، فيرون أن الوصول إلى الله يكون بالتجويع وتعذيب النفس وتأليمها، فإذا بلغ تلك الغاية أعطى نفسه كل ما تشتهي وتتمنى، أي: بعد أن يتم التضمير يتمتع بما يشاء، قال: (ومنهم
ابن حبان كان يقول هذه المقالة) وهو في الحقيقة
ابن حيان .قال: (ومنهم صنف يقولون: إن ترك الدنيا إشغال للقلوب وتعظيم للدنيا ومحبة لها، ولما عظمت الدنيا عندهم تركوا طيب طعامها ولذيذ شرابها ولين لباسها وطيب رائحتها، فأشغلوا قلوبهم بالتعلق بتركها، وكان من إهانتها مؤاتاة الشهوات عند اعتراضها حتى لا يشتغل القلب بذكرها ويعظم عنده ما ترك منها وأعاد)، قال: (و
رباح و
كليب كانا يقولان بهذه المقالة). أي: يقولون: إن الإنسان إذا زهد عن الدنيا وكف عن المحرمات فإن قلبه يتعلق بها، فأفضل شيء أن يواقعها ويأخذ منها حتى لا يتعلق قلبه بها وحتى ينصرف إلى الله وهذا هو التمويه، وإلا فالحقيقة أنهم يعتقدون أنه ما في الوجود إلا هو، فالوجود واحد عندهم، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.