الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: قال المصنف رحمه الله تعالى:
[وقال بعضهم: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فحو حروري، وروي: ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد].تحدثنا في فقرات سابقة أن المؤمن إنما يعبد الله بهذه الأعمال الإيمانية الثلاثة: المحبة والخوف والرجاء، وغرضنا هنا أن نبين الفرق بين المحبة الإيمانية والمحبة الزنديقية؛ لأن هذه العبارة عبارة سلفية مأثورة.فإذا كان من عبد الله بالحب وحده زنديقاً؛ فلا بد من معرفة الحب، وحقيقة هذه المحبة، وإنما كان أصحابها زنادقة لأنهم أفردوها عن أعمال القلب، ولكن هل كان ضلالهم وخطؤهم وزندقتهم أنهم أفردوا عملاً من أعمال القلب الإيمانية عن الأعمال الأخرى؟ إن الواقع أنهم غلوا في ذلك، وخرجوا عن الصراط المستقيم، ولذلك فإن دعواهم المحبة منازعون فيها من أساسها، وبمعنى آخر نقول: إن
المرجئة و
الخوارج كل منهما غلت في عمل من أعمال القلب، فغلت
الخوارج في الخوف، وغلت
المرجئة في الرجاء، ولنأخذ
المرجئة مثالاً لهذا.فبعض
المرجئة غلا في الرجاء، ومع ذلك كان عابداً تقياً ورعاً زاهداً؛ لأنه لم ير أن قوة الرجاء وغلبة الرجاء تحول بين الإنسان وبين الاجتهاد في العبادة، بخلاف من قال هذه المقالة منهم وانحرف بها فترك العبادة والاجتهاد واتكل على الرجاء وحده. وكذلك وجد في
الخوارج من اشتد خوفه من الله وغلب عليه ذلك، ولكنه مع ذلك لم يزد على أن يكون غالياً في دين الله، يريد التقرب إلى الله، ويريد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويريد أن يوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله، ولكنه غلا في ذلك واشتد واشتط حتى خرج عن المنهج القويم. أما أصحاب هذه المحبة الزنديقية فإنهم خالفوا مقتضى النفوس كما خالفوا مقتضى الشرع؛ لأن النفوس الإنسانية فطرها الله على محبة الخير وجلب النفع، فلا تجد أحداً -مؤمناً كان أو كافراً- إلا وهو يسعى ليجلب الخير والنفع لنفسه ليرتاح ويتنعم ويتلذذ كما يرى وكما يظن؛ فإن اجتهد المؤمن في عمل الآخرة فلكي ينال رضا الله والفوز عند الله بما أعده للمؤمنين في الآخرة، فالأصل أن الإنسان يبتغي الخير بأي عمل يعمله، ويبتغي بذلك ما يلائمه وما يحسن به إلى نفسه. لكن هؤلاء الذين يدعون المحبة يكابرون في هذا كله، ويقولون: إننا نحبه لذاته لا طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره وعقابه! وهذا فيه مكابرة؛ إذ لولا أنهم يتلذذون ويتنعمون بشيء من هذا ما فعلوا ذلك أبداً، فكل حي حساس إنما يتحرك فيما يلائمه وفيما يتلذذ به؛ فإذا قالوا ذلك فهم إما كاذبون في دعوى المحبة، وإما واهمون.