ثم ذكر الشيخ الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (
أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء )، والحديث بهذا اللفظ أخرجه الإمام
أحمد ، أما الذي في الصحيح فهو: (
أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ). فالإنسان إذا ظن بالله الخير فإنه لا يحرمه ولا يخيب ظنه، وإذا ظن غير ذلك فإنه يجازى على ذلك بما يتحقق؛ فلهذا يجب أن يحسن العبد الظن بالله، ولا شك في أنه عندما يكون هذا هو حال الرجاء فإنه لا يجوز أن ينتقص منه ويقال: إنه أضعف المنازل، كيف والله تعالى يقول: (
أنا عند ظن عبدي بي )؟! فماذا تظن بربك؟! إن ظننت به الخير والإفضال والإحسان والنعمة فكذلك يكون بإذن الله، وإن ظننت بالله ظن كثير من الجاهلين الذين يظنون بربهم الحيف والجور والغمط، فلا ترى أحدهم إلا متسخطاً شاكياً من أقدار الله، يشكو الخالق إلى المخلوقين، فإن نزل به أمر أو انتقص شيء من دنياه أو حدث به حادث أخذ يشكو إلى المخلوقين: فعل بي وجرى لي. وهذا حال كثير -والعياذ بالله- ممن لا يؤمنون بالله حق الإيمان، فظنهم بالله ظن السوء.ثم تأمل قوله: (
فليظن بي ما شاء )، وكأن الأمر يرجع إليك أيها العبد، فما دام الأمر أنه تعالى عند ظنك فالواجب أن تظن به خيراً.وبين ذلك فقال: (
وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي )، وهذا فضل عظيم، أن الله تعالى العزيز الجبار المتكبر الذي له ملك السماوات والأرض وهو غني عن العالمين جميعاً يذكر هذا العبد الضعيف الفقير المحتاج المنقطع الذي لا حيلة له ولا قوة ورجاء إلا بالله.قال عز وجل: (
وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم )، وهذا لا شك فيه أنه أعلى درجة من سابقه؛ فإنه إذا كان ذاكراً لله في الملأ سيكون ذاكراً له في نفسه بطبيعة الحال، فإذا ذكر العبد الله في ملأ وذكرهم بالله وذكر الله بما هو أهله؛ فإن الله يذكره ويثني عليه في الملأ الأعلى عند الكرام المصطفين عند الله الذي لا يعصون الله طرفة عين؛ ولهذا جاء في الحديث الآخر: (
إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل: إني أحب فلاناً فأحبه. فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في الملائكة: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه الملائكة، ثم يوضع له القبول في الأرض ) والإنسان يحبه الله بقدر ما يحب الله، ويثني الله عليه بقدر ما يثني على الله، ويتقرب الله إليه بقدر ما يتقرب إلى الله، وهو سبحانه الغني، كما قال تعالى: ((
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ))[فاطر:15]، (
يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً ) فلا تنفعه طاعة المطيعين ولا تضره معصية العاصين أبداً، وإنما من يعمل خيراً: ((
فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ))[الروم:44] ومن يعمل شراً فعلى أنفسهم يجنون وبما عملوا يجازون.يقول: (وفي
صحيح مسلم عن
جابر رضي الله عنه قال: (
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه ) ) فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن سوء الظن بالله، وبين لنا أنه لا بد من إحسان الظن بالله، ولا سيما بقوله: (لا يموتن)، مع قوله: (قبل موته بثلاث)، وهذا الذي استنبطه العلماء وأشار إليه الشارح بقوله: (ولهذا قيل: إن العبد ينبغي أن يكون رجاؤه في مرضه أرجح من خوفه).