عظم منزلة الرجاء والرد على الهروي في حط منزلة الرجاء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:فيقول المصنف رحمه الله تعالى: (وقال صاحب منازل السائرين رحمه الله: الرجاء أضعف منازل المريد).وفي كلامه نظر، بل الرجاء والخوف على الوجه المذكور من أشرف منازل المريد، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء ) وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه )].هذه عبارة صاحب منازل السائرين الهروي ، وقد تحدثنا عن الرجاء وحقيقة الرجاء، وهناك تعرضنا لقول الحسن رحمه الله تعالى في الرجاء وما هي حقيقته، وذكرنا أن الرجاء يستلزم العمل، وذكرنا الفرق بين الرجاء وبين الأماني.وقد ذكر الإمام ابن القيم في مدارج السالكين منزلة الرجاء، وعقب على كلام الهروي عند قوله: (إن الرجاء أضعف منازل المريد).فقال ابن القيم رحمه الله -بعد أن تلطف في العبارة في أول كلامه-: (قال شيخ الإسلام حبيب إلينا -يعني الهروي -، ولكن الحق أحب إلينا منه) وفي آخر كلامه أيضاً تلطف وقال: (إنني في هذه المنزلة أو في هذا الانتقاد بمنزلة -معنى كلامه- الهدهد من سليمان عليه السلام حين قال: (( أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ))[النمل:22])، يعني من حسن كلام ابن القيم رحمه الله مع الهروي، مع أن الهروي لم يكن شيخاً مباشراً لـابن القيم ، تلقى على يديه، وإنما قرأ في كتبه، ومع ذلك فإنه من حسن أدبه وتطلفه معه؛ لأنه يرى أنه علمٌ من أعلام أهل السنة والجماعة لا يجوز أن يغض أو ينال من قدره، وإن أخطأ فالخطأ مردود، ولا أحد يقر على الخطأ إذا خالف الحق، ولكن كلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد بدأ رحمه الله تعالى بتفسير كلامه وحمله على أحسن المحامل، ثم عاد فرده، وغاية ما قاله الهروي في كون الرجاء أضعف منازل المريد أن فيه وجه معارضة، ويقصد بذلك: أن الراجي يريد شيئاً غير مراد المحبوب، وهو الله الذي يجب أن يكون عند الإنسان أحب إليه من كل شيء، فكأن الراجي الذي يرجو رحمة الله وفضل الله وما عند الله يريد خلاف مراد المحبوب ويعترض على القدر، بمعنى أنه لو لم يقدر له الأجر ولو لم يقدر له الخير لكان غاضباً أو ساخطاً.وقد اعترض على هذا الكلام ابن القيم رحمه الله اعتراضاً شديداً، فقال: كيف يكون كذلك والرجاء في حقيقته هو تعبد لله بمقتضى أسمائه، مثل البر، والوهاب، والرزاق، والرحيم، والمحسن، فهذه عبودية من عبوديات العبد، فيتعبد الله تعالى بمقتضى هذه الأسماء كما يتعبده بمقتضى كونه العزيز الجبار المتكبر المنتقم.ثم إن الرجاء ليس منافياً لمراد المحبوب؛ لأن الله تعالى أمرنا أن نتخذ الأسباب لندفع بها قضاءه وقدره، فليس مراد الله أن يعذبنا أو أن يعاقبنا حتى إذا رجوناه أو طلبنا منه شيئاً كنا قد أردنا خلاف مراده، وإنما يجب علينا أن ننتهج عبودية تقربنا إلى رضاه وتوصلنا إلى ما يريد منا سبحانه وتعالى، ولا أدل على ذلك من الدعاء؛ فإنه لو كان الأمر كذلك لكان الدعاء أكثر اعتراضاً؛ لأن الدعاء فيه رجاء وزيادة، وهي الطلب، أما الرجاء فهو أمل، لكن الدعاء طلب تحقيق مراد العبد وحظ العبد، ومع ذلك لا حرج في الدعاء، بل العباد مأمورون بأن يدعوا الله تعالى: (( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ))[غافر:60]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء هو العبادة )، وقد جاء في حديث آخر: ( من لم يسأل الله يغضب عليه )، وهذا الذي يعبر عنه بعض الشعراء بقوله: الله يغضب إن تركت سؤاله وُبَنَّي آدم حين يسأل يغضب فالله إنما يغضب ويؤاخذ إذا لم يسأل وإذا لم يدع، وكلما كان العبد أكثر دعاءً لله كان ذلك دليلاً على عبوديته، فإذا كان هذا في الدعاء فالرجاء من باب أولى وأحرى أن يكون العبد محققاً له؛ ولذا يقول الله في الحديث القدسي: ( يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي )، فالمطلوب من العبد الأمران: الدعاء والرجاء، وإذا فعل العبد ذلك نال هذه الدرجة العظيمة، وهو أن يغفر الله عز وجل له ولا يبالي بذلك.