المادة    
وهنا سنكمل ذلك بكلام مفصل لبعض الأئمة في بيان هذه الحقيقة، وقد اخترنا كلاماً نقله الإمام أحمد رحمه الله عن الإمام المشهور الجليل الفضيل بن عياض في كتاب السنة الذي أشرنا إليه، ونريد من النقل أن نأتي بأنموذج في كيفية مناقشة السلف الصالح أهل البدع وكيفية مناظرتهم لهم بألطف إشارة وأقوى عبارة، حتى ألزموهم بالحجج من كتاب الله ومما صح عن رسول الله، فهو نوع من الجدل الحكيم الملزم المقنع من غير تكلف. ‏
  1. الاستدلالات بآيات أوائل سورة الأنفال

    يقول الإمام عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة: (وجدت في كتاب أبي) لأن الإمام أحمد له كتاب خاص هو كتاب الإيمان الذي أشرنا إليه سابقاً، وهذا الكتاب موجود ضمن مسند الخلال في مجلد ضخم، ولو حقق لكان عدة مجلدات.
    يقول: (وجدت في كتاب أبي: أخبرت أن الفضيل بن عياض قرأ أول الأنفال حتى بلغ: (( أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ))[الأنفال:4] ثم قال حين فرغ: إن هذه الآية تخبرك أن الإيمان قول وعمل، وأن المؤمن إذا كان مؤمناً حقاً فهو من أهل الجنة).
    فالمؤمن حقاً له صفات، وعاقبته وخاتمته هي الجنة، ففي هذا تنبيه على أن الذي يقول: أنا مؤمن حقاً كأنما يقول: أنا من أهل الجنة، ولهذا لا يقل أحد: أنا مؤمن حقاً، وله أن يقول: أنا مؤمن على سبيل الإخبار فقط، وأفضل من ذلك أن يقول: آمنت بالله كما سيأتي في كلام الفضيل بن عياض .
    قال: (فمن لم يشهد أن المؤمن حقاً من أهل الجنة فهو شاك في كتاب الله مكذب، أو جاهل لا يعلم، فمن كان على هذه الصفة فهو مؤمن حقاً مستكمل الإيمان، ولا يستكمل الإيمان إلا بالعمل، ولا يستكمل عبد الإيمان ولا يكون مؤمناً حقاً حتى يؤثر دينه على شهوته).
    يريد رحمه الله أن يربط العمل بالإيمان حقيقة، فـ لا يمكن لأحد أن يكون مؤمناً حقاً حتى يؤثر دينه على شهوته، وهذا واضح، فأكثر ما يكب الناس في النار هو الشهوات؛ لأن النار حفت بالشهوات.
    قال: (ولن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه، يا سفيه! ما أجهلك؛ لا ترضى أن تقول: أنا مؤمن حتى تقول: أنا مؤمن حقاً مستكمل الإيمان!) يخاطب الناس الذين ظهروا في زمانه، حيث كان الصحابة والتابعون يتحرجون من أن يقول أحدهم عن نفسه: أنا مؤمن، فهؤلاء جاءوا فقال أحدهم: أنا مؤمن حقاً، وقال الآخر: أنا مؤمن مستكمل الإيمان وبعضهم يقول: إيماني كإيمان جبريل وميكائيل، ويقصدون مجرد المعرفة أو الإقرار في نظرهم.
    يقول: (يا سفيه! ما أجهلك؛ لا ترضى أن تقول: أنا مؤمن حتى تقول: أنا مؤمن حقاً مستكمل الإيمان! والله لا تكون حقاً مستكمل الإيمان حتى تؤدي ما افترض الله عليك، وتجتنب ما حرم الله عليك، وترضى بما قسم الله لك، ثم تخاف مع هذا ألا يقبل الله عز وجل منك).
    هذا هو الإيمان حقيقة، أن تؤدي ما افترض الله عليك، وأن تجتنب ما حرم الله عليك، وترضى بما قسم الله لك، وتخاف مع هذا العمل والرغبة والرهبة والطاعة أن لا يتقبل الله منك.
    أما قول: (أنا مؤمن كامل الإيمان) أو (أنا مؤمن حقاً) فلا يقوله أحد عرف حقيقة الإيمان.
  2. الاستدلال بآية سورة البينة

    قال رحمه الله تعالى: (ووصف فضيل الإيمان بأنه قول وعمل وقرأ: (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ))[البينة:5]).
    فهذه -كما قلنا- كان الإمام الشافعي يرى أنها أقوى في الدلالة على بطلان مذهب المرجئة ، وكذلك يرى الفضيل رحمه الله.
    يقول: (فقد سمى الله عز وجل ديناً قيماً بالقول والعمل) يعني: سمى الله ذلك دين القيمة بالقول والعمل لا بالقول وحده فعبدوا الله ظاهراً وباطناً مخلصين له الدين، فجاءوا بأعمال القلب وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وهذه أعمال جوارح.
    قال: (فالقول الإقرار بالتوحيد والشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، والعمل أداء الفرائض واجتناب المحارم).
    يعني أن القول هو الإقرار والتصديق القلبي، والعمل هو أداء الفرائض واجتناب المحارم، والفرائض منها ما هو ظاهر ومنها ما هو باطن، والمحارم منها الكبائر الظاهرة، مثل الزنا والخمر، ومنها الكبائر الباطنة التي لا يتنبه لها كثير من الناس، مثل الكبر والعجب والحسد والرياء والنفاق القلبي.
    فهناك كبائر ظاهرة وكبائر باطنة، وهناك واجبات ظاهرة، مثل بر الوالدين والحقوق التي شرعها الله وجعلها على عباده، وهناك واجبات باطنة، مثل محبة المسلمين، والموالاة، والخوف، والرجاء، والتوكل، فهذه واجبات باطنة أصلها لا بد منه، ومنها ما هو مستحب؛ لأنها تزيد وتنقص.
    وإن مما يخطئ فيه كثير من المسلمين أنهم لا يفطنون للكبائر الباطنة، فلو عرض على أحدهم الدنيا كلها ليشرب الخمر لم يشربها، وهذه نعمة من الله لأنه لا يرتكب هذه الكبيرة، لكنه يمكن أن يغتاب أخاه أو يحسد أخاه المسلم، ويتلبس بهذه الكبيرة الباطنة ولا يرى أنه مذنب ولا يرى أنه فعل شيئاً، وهذا خطر على دينه، والكبائر كلها خطر، لكن الكبائر الباطنة عادة ما تدعو إلى الكبائر الظاهرة، فلو أن مسلماً يحسد أخاه المسلم؛ فإن هذا الحسد يؤدي به إلى أن يغمزه ويلمزه ويغتابه، وربما آذاه وجر له مصيبة.
  3. الاستدلال بما حكم الله تعالى من هدي الأنبياء وشرعتهم

    فالمقصود أن عبارات السلف الصالح تشعر وتدل على فهمهم العميق، لهذا قرأ الفضيل رحمه الله قوله تعالى: (( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ))[مريم:54-55]، فالدين قول وعمل، والأعمال من الإيمان ومن الدين، ولذا كان يأمر بها الرسل الكرام.
    وقرأ أيضاً: (( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ))[الشورى:13]، فالدين هو الاتباع في أمور العمل، وكذلك في الأمور الباطنة، كما كان هؤلاء الأنبياء صلى الله وسلم وبارك عليهم، فالدين التصديق بالعمل، كما وصفه الله، وكما أمر أنبياءه ورسله بإقامته والتفرق فيه ترك العمل، أو التفريق بين القول والعمل، فقوله تعالى: (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) يعني: كأنكم إذا فرقتم بين الإيمان والعمل فقد تفرقتم في الدين.
    قال: (فالدين التصديق بالعمل)، فليس المقصود بالإيمان أن نصدق بقلوبنا ونقول: صدقنا فنحن إذاً مؤمنون، بل أن تصدق بأعمالك، فإذا قال الرجل: أنا مقر بأن الله افترض عليَّ الصلاة أو أي فريضة أخرى؛ قلنا: صدق ذلك بالعمل، وإن لم يصدقه بالعمل فقد كذب عمله قوله؛ يقال له: أقم الصلاة، فيقول: الإيمان في القلب! ويقال له: لقد تركت هذا الواجب، أو ارتكبت هذا المحرم، فيقول: الإيمان في القلب.
    فـالفضيل يقول: الدين التصديق بالعمل. ولهذا لما أمر الله خليله إبراهيم أن يذبح ابنه ثم أخذ ابنه وتله للجبين فامتثل أمر الله، إلا أن الله لم يشأ أن يموت، فقال تعالى: (( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ))[الصافات:105]، أي: امتثلت الحقيقة، لكن لم يرد الله أن تذبح ابنك.
  4. الاستدلال بآية سورة براءة

    يقول: (قال الله عز وجل: (( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ))[التوبة:11]، فالتوبة من الشرك جعلها الله قولاً وعملاً بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة).
    فـ التوبة من الشرك ليست أن يقول العبد: تبت وكفرت بما كنت أعبد من الأوثان، وأنا مؤمن، ثم يذهب ولا يفعل شيئاً، ولكن التوبة من الشرك جعلها الله قولاً وعملاً، يعني: أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، فلهذا قال تعالى: (( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ))[التوبة:11] أي: في الإيمان، والدين هو الإيمان.
    قال: (وقال أصحاب الرأي: ليس الصلاة ولا الزكاة ولا شيء من الفرائض من الإيمان؛ افتراء على الله وخلافاً لكتابه ولسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولو كان القول كما يقولون لم يقاتل أبو بكر أهل الردة).
    أي: لو كان القول كذلك، وأن الناس إذا أتوا بالواجبات الظاهرة أو لم يأتوا بها على سواء، فلماذا قاتل أبو بكر ومن معه من الصحابة رضي الله عنهم من ترك الزكاة؟! وانظر الآن إلى كثير من الناس ممن يتركون الزكاة، إذا قلت لأحدهم: زك؛ قال: الإيمان في القلب.
    ولو كان الأمر كذلك لقال تاركو الزكاة: الإيمان في القلب، ولن نؤدي زكاة أموالنا، ولقال لهم الصحابة: أنتم أحرار، والحال أنه ما كان ذلك أبداً، وإنما قاتلوهم وسموهم أهل ردة؛ لأنهم لم يدفعوا حق الله وإن كان لهم تأويل، ولكن ليس كل تأويل مقبولاً فكثير من المسلمين يجهل هذه الحقائق، ويظن أن الإيمان مجرد القول أو الإقرار أو الانتساب إلى هذا الدين، ثم بعد ذلك يفعل ما يشاء، ويترك من الواجبات ما شاء ويرتكب من المحرمات ما شاء، ويريد أن تكون الحياة العامة في البلاد كلها كما يرى من مناهج وتصورات وآراء ونظريات غربية أو شرقية قديمة أو محدثة.