وهكذا جعل الإسلام المجتمع الإسلامي كله أشبه بمنظمة عامة لحقوق الإنسان؛ وبذلك تجنب المجتمع الإسلامي -رغم سعته الهائلة- التناحر الفئوي المتمثل في تشكيل مجموعات ضغط كالنقابات والأحزاب والجمعيات لكل فئةٍ أو حرفةٍ أو طبقةٍ فضلاً عن الصراع بين الجنسين!!
كما تجنب كثيراً من التوتر في العلاقات الدولية الذي طالما انتج حروباً أنهكت كلا طرفيها.
إن أمماً كثيرة هاجمت الحضارة الإسلامية ولكنها احتوت المهاجمين حتى ذابوا فيها وأصبحوا جزءً من كيانها!!
وأمة هذه شريعتها وتلك حضارتها لابد أن تكون أبعد ما يكون عن الثيوقراطية التي غطت أوروبا في عصورها الوسطى.
ذلك أن الثيوقراطية من حيث هي ادعاءٌ للتفويض عن الله - في القتل كما حدث للجويلف والجبلِّيين وللمسلمين باسم الحروب الصليبية - وفي التشريع الديني والاجتماعي للبشر: هي في الإسلام كفر بالله ممن آمن بها، وعدوان على خصائص الألوهية ممن ادعاها، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسه ليس إلا مبلغاً عن الله، بل هو يصرح تصريحاً قاطعاً بأنه يجتهد في أحكامه وقد يطابق حكمه عين العدل واقعياً وقد لا يطابق، فهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعلم الغيب، ومن ثم فالمسئولية ليست عليه بل على الظالم من الخصمين، وربما على المحق العاجز أيضاً:
{إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقطع له قطعة من النار} متفق عليه
ومن هنا يصبح الحديث عن مزايا العلمانية الأمريكية في مقابل الثيوقراطية لا معنى له إذا تعلق الأمر بالإسلام، فكل تلك المزايا قد جاء الإسلام بمثلها أو أفضل، وحث عليها ضمن دعوته العامة للبحث عن الحق أنى كان، ومحاربة الخرافة والتقليد الأعمى والتعصب للرأي، ونبذ الطغيان والاستبداد في أي صورة، كل ذلك مع استبقاء أعظم نعمة لله على عباده، وأعظم مكتسب إنساني:وهو الإيمان بالله واتباع شريعته العالمية العادلة الكاملة.
يمكن أن تكون العلمانية أهون الشرين بالنسبة للغرب، لكن أياً من أسبابها لا وجود له في الإسلام، وكل الأجوبة الثلاثة التي أوردها الخطاب لحل معضلة العلاقة بين الدين والمجتمع لا تزيد عن كونها كشفاً لوجه ما من وجوه المعضلة في حين أنه ليس في الإسلام معضلة أصلاً!