المادة    
[السادس: التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو ذاتاً وقدراً وشرفاً]. وقد ذكر الشارح مراتب العلو ونص عليها؛ لأن أهل البدع وأهل الضلال يقولون: العلو علو المكانة وعلو الشرف ولا يثبتون علو الذات، فيفرقون بين نوع ونوع، ويتركون ما هو أصرح وأولى، ويذهبون إلى الآخر وإن كان حقاً، فقول الله تعالى: ((وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ))[البقرة:255] يدل على أنه سبحانه وتعالى هو العلي قدراً، والعلي شرفاً، والعلي ذاتاً، فكل اسم أو صفة لله تعالى بالعلو، فالمقصود منها علو الذات مع علو المكانة والشرف والقدر..الخ، ولا تعارض بين هذه الأنواع من العلو، فإذا قال المؤولون: علو المكانة أو علو الشرف يستلزم نفي علو الذات، قلنا: لا يلزم ذلك؛ إذ أننا حين نقول: الوزير أعلى من المدير، لا يستلزم ذلك أن يكون الوزير في الدور الأرضي من المبنى والمدير في الدور الأعلى، بل يدل على عكسه حتى يكون العلو ثابتاً بجميع أنواعه، وإن كان ذلك لا يلزم في هذا المثال.
والمقصود أن إثبات علو القدر لا ينفي علو الذات، وغاية ما في الأمر أنه قد لا يدل عليه، فقوله تعالى: ((وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ))[الشورى:4] وقوله: ((هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ))[الحج:62] ((إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ))[الشورى:51] وغيرها من الأدلة فيها دلالة على ذلك، خلافاً للذين يؤولون ذلك.
وهذه الأدلة وما سيأتي بعدها يؤولها أهل البدع، ونحن نقول: إذا أولنا هذا الصفات جميعاً وهذه الآيات جميعاً، فما الذي يبقى من كتاب الله سبحانه وتعالى؟!
ونذكر هنا قاعدة مهمة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الرسالة الحموية، في هؤلاء المؤولين؛ قال رحمه الله: لو كان التأويل حقاً، لكان ترك الناس بغير قرآن وسنة أرحم وأرفق بهم؛ لأنهم بمقتضى ذلك قد كلفوا بشيئين: التكليف الأول: أن يعرفوا الله تعالى كما تدل عليه البراهين العقلية لديهم.
والتكليف الآخر: أن عليهم إذا دعتهم الرسل إلى شيء أن يجهدوا عقولهم وفكرهم حتى يؤولوه ويخرجوه إلى ما يوافق عقولهم، وذلك يقتضي أن لا فائدة في إرسال الرسل، وما أتوا به من آيات كثيرة.
ولا تكاد تقرأ عدداً من الصفحات في تفسير الرازي إلا وتجد تأويلاً؛ فما فائدة الوحي والقرآن؟! فقد كان بإمكاننا أن نستغني عن القرآن ونستغني عن السنة، ولا يقول ذلك عاقل ولا مؤمن.
فهذا من أصول الرد عليهم، وهو أنه لو كان التأويل حقاً وما يذهبون إليه من التأويل صحيحاً، لكان ترك الناس بلا قرآن ولا سنة أرحم وأفضل، فكم من الآثار والأدلة في إثبات العلو يحتاجون أن يؤولوها..! ولذلك يؤولون الألوف من الأدلة من أجل أن يصلوا إلى أن الله -تعالى الله عن قولهم- لا داخل العالم ولا خارجه، ويأتون بتأويلات غريبة؛ كـالغزالي حين تعرض لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {حتى يضع الجبار فيها قدمه} قال: الجبار اسم ملك يخلقه الله في ذلك الوقت؛ مع أن الحديث واضح وصريح؛ فإذا كان الله عز وجل يريد أن نتعبده على أنه ليس له قدم، ولا يضعها في النار، فما كان هناك من حاجة أن يذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، ويجعلنا في حيرة حتى نأتي بهذه التأويلات البعيدة.
كل ذلك يدل على أنه يجب علينا أن نثبت لله ما أثبته لنفسه في كتابه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم بمقتضى هذه الأدلة الصريحة الصحيحة.