وهكذا كانت الحضارة الإسلامية حاوية لنماذج حضارية متنوعة -لكن متسقة- ليس في عصور الإسلام الزاهرة فقط؛ بل حتى في العصور الأخيرة، وبكل تواضع.
فلم يحدث أن أحداً منها ادعى أنه يمثل نهاية التاريخ ولا تمثيل القيم الكونية، بل كانت هذه القيم سارية في الكيان العام للأمة كما يسير الدم في الجسد.
ولنأخذ كلاً من: الهند وأسبانيا مثلاً، حيث كانت المبادئ الأساسية لا تزال محفوظة هنا وهناك، رغم النـزول الشديد عن قمة العدل الراشدي.
لقد حكم المسلمون الهند ثمانية قرون، وكان من حكامهم الصالح والطالح، لكن الناس كلهم كانوا متساوين فيما كفلت الشريعة لهم من حقوق، وأحراراً فيما يعتقدون، لم يحدث فيها إرغام هندوسي ولا غيره على تغيـير معتقده، وكان قدرٌ من التآلف الاجتماعي عجزت عن تحقيق مثله الحكومة البريطانية، ومن بعدها حكومة حزب المؤتمر العلمانية، العجز الذي أدَّى إلى وصول المتطرفين الهندوس إلى الحكم وارتكاب الفظائع ضد المساجد والكنائس سواء، بل جعل الهندوس أنفسهم يعانون من انقسام خطير.
أما في أسبانيا حيث كان للحضارة طراز آخر فغني عن البيان، ما كانت تعيشه الحرية الدينية والعلمية من ازدهار في مقابل التعصب الشديد في أوروبا المجاورة، ويكفي هنا الإشارة إلى محاكم التفتيش الكاثوليكية التي أعقبت سقوط الحضارة الإسلامية هناك، والإبادة الكاملة للشعب المتحضّر على أيدي الذين تعلَّموا منه أصول الحضارة.
ولعل من المناسب ذكر النموذج -الذي يعده كثير من المسلمين وغيرهم- الأسوأ في تاريخ الإسلام وهو النموذج التركي.
إنه النموذج الذي كان مارتن لوثر يضرب به المثل لحرية الاعتقاد في مقابل الطغيان الأعمى للبابوية.
لقد أدهشه كيف أن المواطن التركي ممكن أن يكون يهودياً أو نصرانياً وليس مسلماً فحسب، وكيف أن كل مسلم يقرأ القرآن في حين يحتكر البابا تفسير الإنجيل ويحظر ترجمته.
ومن هنا استلهم قائمة الاحتجاج (95بنداً) التي علَّقها على كنيسة ويتنبرج، وأصبحت تمثل العقيدة البروتستانتية التي قامت الولايات المتحدة الأمريكية على أساسها.
وقد كانت استانبول مركزاً حضارياً عالمياً تتعايش فيه كل الأديان والأفكار، ولم يكن الرقي العمراني وحده الذي بهر السفراء والرحالة الغربيين -ولا يزال كذلك حتى الآن-؛ بل الرقي الأخلاقي والحضاري أيضاً. .
  1. متى فقدنا حضارتنا

  2. الفرق بين القيم الإسلامية وبين كلام فلاسفة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان