القلب هو موضع الإيمان الأصلي، وإيمانه أهم أجزاء الإيمان، ومن هنا كان قوله وعمله هو أصل الإيمان الذي لا يوجد بدونه، مهما عملت الجوارح من الإيمان، ولا خلاف بين عقلاء بني آدم في أن كل حركة بالجارحة لا تكون إلا بإرادة قلبية، وإلا فهي من تصرفات المجانين، أو حركات المضطرين -فاقدي الإرادة-.
فالقلب -كما سبق في فصل حقيقة النفس الإنسانية- ليس ملك الأعضاء فحسب، بل هو أعظم من ذلك، إذ هو مصدر توجيهها، ومنبع عملها، وأساس خيرها أو شرها، فإذا كانت إرادته إيمانية، كانت الأفعال العضوية إيماناً، وإذا كانت إرادته إرادة كفر أو نفاق أو عصيان كانت تلك مثلها.
والنصوص في ذلك كثيرة. منها:
1- يقول الله تعالى في حق من حققوا الولاء والبراء:
((أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ))[المجادلة:22].
2- ويقول: ((ولَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ))[الحجرات:7].
3- ويقول في حق الأعراب: (( ولَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُم ))[الحجرات:14].
4- ويقول: ((ولِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ ولِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ))[آل عمران:154].
وغير ذلك كالآيات الدالة على الطبع والختم على قلوب الكافرين أو كونها في أكنة أو مغلفة - ونحوها.
وكل آية ورد فيها قوله: (بِذَاتِ الصُّدُورِ)
ومن السنة يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { التقوى هاهنا } وأشار إلى صدره - ثلاث مرات.
ويقول: {ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب}.
ويقول -كما روى الإمام أحمد في المسند-: {الإسلام علانية والإيمان في القلب وأشار إلى صدره ثلاث مرات قائلاً: التقوى هاهنا، التقوى هاهنا}(3/ 135) .
ويقول: {يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك }
فهذه النصوص تدل على أن القلب هو الأصل وأن إيمانه هو جزء الإيمان الأساس الذي يقوم عليه الجزء الظاهر ويتفرع منه ويرتبط به ارتباط العلة بالمعلول بل ارتباط أجزاء الحقيقة الواحدة الجامعة، ومن هنا لم يسم المنافق مؤمناً قط وإن كثر عمل جوارحه بالجهاد والصلاة.
بل المؤمن المجاهد إذا نوى بجهاده طلب الدنيا أو الرياء حبط عمله، وتبدلت المثوبة في حقه عقوبة وعذاباً، وهذا مما يدل على أهمية عمل القلب، وقد سبق تفصيل لذلك في فصل حقيقة النفس الإنسانية.
ومن العجيب أن المرجئة استدلت ببعض الأدلة السابقة على أن الإيمان هو مجرد التصديق القلبي، وأن أعمال الجوارح -بل بقية أعمال القلب- ليست من الإيمان، فها هو ذا الإيجي في المواقف يذكر مذهب أصحابه الأشاعرة وهو أنه التصديق، ومذهب الماتريدية وهو أنه التصديق مع الكلمتين، ويذكر ''مذهب السلف وأصحاب الأثر أنه: مجموع هذه الثلاثة؛ فهو تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان''.
ثم يقول في الانتصار لمذهبه: '' لنا وجوه:
الأول: الآيات الدالة على محلية القلب للإيمان نحو: (( أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ ))[المجادلة:22].. (( ولَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُم ))[الحجرات:14].. (( وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ ))[النحل:106] ومنه الآيات الدالة على الختم على القلوب.
ويؤيده دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اللهم ثبت قلبي على دينك}.
وقوله لـأسامة -وقد قتل من قال: لا إله إلا الله-: {هلا شققت عن قلبه} ''
والرد عليهم واضح، فإن النصوص الدالة على الجزء الباطن من الإيمان لا تنفي وجود الجزء الظاهر -لا سيما ولهذا الجزء نصوص مماثلة- وغاية ما فيها بيان أن إيمان القلب هو الأصل والأساس لإيمان الجوارح كما تقدم.
ثانياً: ومن جهة ثانية: هذه النصوص لا تدل على التصديق، بل على أمر زائد عنه، فما كتبه الله في قلوب المعادين لأعدائه، وما زينه في قلوب المؤمنين، وما نفى دخوله في قلوب الأعراب... وهكذا، ليس هو التصديق المجرد كما يحسبون وإنما هو أعمال قلبية كالمحبة والرضا واليقين ونحوها.
ثالثاً: ومن جهة ثالثة: يرد عليهم بأن من تأمل هذه النصوص التي أوردها صاحب المواقف يجد أنها تدل على إيمان الجوارح بنوع من أنواع الدلالة، وأن الإيمان المذكور في بعضها ليس هو الإيمان العام المقابل لكلمة (الكفر) والمرادف لكلمة (الدين) بل هو الإيمان الخاص المقابل لكلمة (الإسلام) إذا اجتمعا، أي: على النحو الذي دل عليه الحديث السابق: { الإسلام علانية والإيمان في القلب } ولا مجال للبسط أكثر من هذا.
ومن أفسد الأصول التي بناها المرجئة على هذا الاعتقاد -أي: انحصار الإيمان في التصديق القلبي وحده- أنهم حصروا الكفر في التكذيب القلبي أيضاً، حتى إنهم لم يعتبروا الأعمال الصريحة كالسجود للصنم وإهانة المصحف وسب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا دلالات على انتفاء التصديق القلبي وليست مكفرة بذاتها.
وكان لهذه العقيدة آثار عميقة المدى على الأمة، بل هي في عصرنا هذا أساس للضلال والتخبط الواقع في مسألة التكفير، ومنها نشأ التوسع في استخدام شرط الاستحلال، حتى اشترطوه في أعمال الكفر الصريحة؛ كإهانة المصحف وسب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلغاء شريعة الله، فقالوا: لا يكفر فاعلها إلا إذا كان مستحلاً بقلبه!! واشترط بعضهم مساءلة المرتد قبل الحكم عليه، فإن أقر أنه يعتقد أن فعله كُفْر كُفِّر وإن قال: إنه مصدق بقلبه ويعتقد أن الإسلام أفضل مما هو عليه من الردة لم يكفروه!!
وهذا جزء من قضايا كبرى لا يسعنا تفصيل الحديث عنها هنا، والغرض هنا التنبيه على أن أصلها العميق هو: عدم إدراك العلاقة بين عمل القلب وعمل الجوارح.