المادة    
ولـابن القيم رحمه الله كلام نفيس في كتابه زاد المعاد في بداية الجزء الرابع، حيث قال رحمه الله تعالى: "ونحن نُتْبِع ذلك -يعني ما تقدم من أبواب- بذكر فصول نافعة في هديه في الطب الذي تطبب به، ووصفه لغيره، ونبيّن ما فيه من الحكمة التي تعجز عقول أكثر الأطباء عن الوصول إليها، وأن نسبة طبهم إليها كنسبة طب العجائز إلى طبهم".
ثم يقول: "المرض نوعان: مرض القلوب، ومرض الأبدان، وهما مذكوران في القرآن، ومرض القلوب نوعان: مرض شبهة وشك، ومرض شهوة وغيّ، وكلاهما في القرآن"، وذكر الآيات في ذلك.
ثم يقول: "فأما طب القلوب فمسلم إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم وعلى أيديهم" وهذا صحيح، فعلاج القلوب، وعلاج الشبهات، وعلاج الجهل بالله سبحانه وتعالى، وعلاج الغفلة عن الدار الآخرة، وما يعتري الناس من ظلمات الضلال والكفر والإلحاد، والشك والزيغ والعناد؛ كل هذا لا يعالجه علماء الطب، ولا علماء النفس، ولا علماء الاجتماع، إنما يعالجه الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، والذين هم أهل علاج هذه القلوب.
يقول ابن القيم رحمه الله: "فإن صلاح القلوب أن تكون عارفة بربها وفاطرها، وبأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، وأن تكون مؤثرة لمرضاته ومحابّه، متجنبة لمناهيه ومساخطه، ولا صحة لها ولا حياة ألبتة إلا بذلك، ولا سبيل إلى تلقيه إلا من جهة الرسل، وما يظن من حصول صحة القلب بدون اتباعهم؛ فغلط ممن يظن ذلك، وإنما ذلك حياة نفسه البهيمية الشهوانية، وصحتها وقوتها، وحياة قلبه وصحته وقوته عن ذلك بمعزل" يعني: أن طب غير الأنبياء يمكن أن يعالج النفس الشهوانية والجسد الحيواني، لكن القلب عن ذلك بمعزل؛ لأنه لا يعالجه إلا القرآن.
يقول: "ومن لم يميز بين هذا وهذا -بين طب القلوب وطب الأبدان- فليبك على حياة قلبه، فإنه من الأموات، وعلى نوره، فإنه منغمس في بحار الظلمات".
ثم يقول (ص:11): "ونحن نقول: إن هاهنا أمراً آخر نسبة طب الأطباء إليه كنسبة طب الطرقية والعجائز إلى طبهم" الطرقية هم الأطباء الجوالون الذين يعالجون على الشوارع والطرق، ويدعون أنهم أطباء، وهم أناس لا خبرة لهم بالطب، وإنما ينتحلون أنهم أطباء، وحقيقة ما يفعلونه أنه أسلوب من أساليب الكدية والاستجداء (الشحاذة).
يقول ابن القيم: ("وقد اعترف به حذاقهم وأئمتهم؛ فإن ما عندهم من العلم بالطلب؛ منهم من يقول: هو قياس، ومنهم من يقول: هو تجربة" يعني: أن الطب البشري -طب الأبدان الموجود في جميع المستشفيات- إنما هو من قياس حالة على حالة، أو يكون تجربة.
يقول ابن القيم رحمه الله: "منهم من يقول: هو قياس، ومنهم من يقول: هو تجربة، ومنهم من يقول: هو إلهامات ومنامات، وحدس صائب" أي أن الطبيب يخمن ويقدر، فيصيب أحياناً ويخطئ أحياناً، "ومنهم من يقول: أخذ كثير منه من الحيوانات البهيمية -وهذا واقع إلى اليوم- كما نشاهد السنانير -القطط- إذا أكلت ذوات السموم تعمد إلى السراج، فتلغ في الزيت تتداوى به، وكما رئيت الحيات إذا خرجت من بطون الأرض وقد عشيت أبصارها -لأنها تفاجأ بالشمس- تأتي إلى ورق الرازيانج فتمر عيونها عليها، وكما عهد من الطير الذي يحتقن بماء البحر عند انحباس طبعه، وأمثال ذلك مما ذكر في مبادئ الطب.
وأين يقع هذا وأمثاله من الوحي الذي يوحيه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بما ينفعه ويضره؟!" فهيهات أن تكون هذه التجارب مثل ما أوحاه الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ((وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ))[الإسراء:105] وقال: ((وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى))[النجم:3-4]).
يقول: "فنسبة ما عندهم من الطب إلى هذا الوحي، كنسبة ما عندهم من العلوم إلى ما جاءت به الأنبياء، بل ها هنا من الأدوية التي تشفي من الأمراض ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم، من الأدوية القلبية والروحانية مثل: قوة القلب، واعتماده على الله، والتوكل عليه، والالتجاء إليه، والانطراح والانكسار بين يديه، والتذلل له، والصدقة، والدعاء، والتوبة، والاستغفار، والإحسان إلى الخلق، وإغاثة الملهوف، والتفريج عن المكروب، فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها، فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علم من هو أعلم الأطباء، ولا تجربته، ولا قياسه، وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أموراً كثيرة، ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية" لا يفهم من قول ابن القيم: "وقد جربنا ..." أنه جرب هذه الأمور ليختبرها هل تنفع أم لا تنفع؛ لأن من استخدم هذه الأمور ليرى هل تنفع أو لا تنفع، كان هذا سبباً لعدم انتفاعه، لأنه لم يأخذ بها عن يقين، وقد تنفع لكن صاحبها على خطر في إيمانه.
ثم يقول: "وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أموراً كثيرة، ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية، بل تصير الأدوية الحسية عندها بمنزلة أدوية الطرقية عند الأطباء، وهذا جار على قانون الحكمة الإلهية، ليس خارجاً عنها؛ ولكن الأسباب متنوعة"، فمنها: التوبة، والاستغفار، والدعاء، وإغاثة الملهوف، وتفريج كربات المكروبين، جعلها الله من أسباب الشفاء، وجعل أيضاً الأعشاب أو الأغذية أو الأدوية النافعة أسباباً للشفاء، فالذين لا يؤمنون بالآخرة لا يعرفون إلاَّ الماديات المحسوسات؛ لأنهم يعتبرون الإنسان هو هذا الجسد، مثل البهيمة، فيعالجونه بما تعالج به البهيمة من العلف والماء فقط.
يقول: "فإن القلب متى اتصل برب العالمين، وخالق الداء والدواء، ومدبر الطبيعة ومصرفها على ما يشاء، كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد منه المعرض عنه، وقد علم أن الأرواح متى قويت، وقويت النفس والطبيعة، تعاونا على دفع الداء وقهره، فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه، وقد فرحت بقربها من بارئها، وأنسها به، وحبها له، وتنعمها بذكره، وانصراف قواها كلها إليه، وجمعها عليه، واستعانتها به، وتوكلها عليه؛ أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية وأن توجب لها هذه القوة دفع الألم بالكلية؟!" فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا أصح الناس عقولاً بلا ريب، وفي نفس الوقت من أصح الناس أبداناً؛ لأن القلب إذا صح وتداوى بهذه الأدوية، صح الجسد بإذن الله تبارك وتعالى أيضاً، وإن ابتلوا بمرض، فإن قوة إيمانهم وتوكلهم وتضرعهم يعطيهم من تحمل المرض ما لا يستطيع غيرهم أن يتحمله، وكذلك المؤمنون، فإنه إذا ابتلي شخصان أحدهما قوي الإيمان والآخر ضعيف الإيمان بمرض، فإن قوي الإيمان يكون حاله أحسن من ضعيف الإيمان، وسبب ذلك: ما يحمله الأول من النفسية السليمة، لإيمانه بقضاء الله وقدره، وصبره على ما ابتلي به.
يقول: "ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس، وأغلظهم حجاباً، وأكثفهم نفساً، وأبعدهم عن الله وعن حقيقة الإنسانية، وسنذكر إن شاء الله السبب الذي به أزالت قراءة الفاتحة داء اللدغة عن اللديغ التي رُقي بها، فقام حتى كأن ما به قَلَبَة".
قال: "فهذان نوعان من الطب النبوي -البدني، والقلبي- نحن بعون الله تعالى سنتكلم عليهما بحسب الجهد والطاقة، ومبلغ علومنا القاصرة، ومعارفنا المتلاشية جداً، وبضاعتنا المزجاة، ولكنا نستوهب من بيده الخير كله، ونستمد من فضله، فإنه العزيز الوهاب".
  1. أدوية القلوب من القرآن والسنة

  2. المناسبة بين أمراض القلوب والقدر