سبق تقرير القول أن الإيمان عند المرجئة مثله مثل أية نظرية فلسفية أو مقولة ذهنية، متى بلغت إنساناً فصدق بها حصل المطلوب،فإذا زاد على ذلك بأن أخبر بلسانه عما في قلبه فقال: صدقت أو أقررت؛ فقد تم المراد ظاهراً وباطناً.
ومن ثَم اعتقدوا أن قول: لا إله إلا الله، إنما هو إخبار عما في القلب من تصديق -إذ لا يثبتون من أعمال القلب سوى التصديق- فمتى تلفظ بها عندهم فقد أصبح مؤمناً باطناً وظاهراً، بخلاف ما لو امتنع عن قولها فإنه عند من يكفره منهم كافر ظاهراً مع جواز كونه مؤمناً باطناً، وكذلك متى ارتكب فعلاً مكفراً قالوا: يكفر ظاهراً فقط وأما من ورد الوحي بنفي الإيمان عنه لارتكابه فعلاً مكفراً كإبليس، أو امتناعه عن الشهاديتن كاليهود فقالوا: هذا ليس في قلبه تصديق أصلاً.
وفي هذا القول من المغالطات والمكابرة ما لا يخفى، والمراد هنا بيان غلطهم في اعتبار قول: لا إلا إله الله، إخبار مجرد.
وذلك أنه إذا تقرر أن المطلوب من القلب ليس مجرد التصديق بل هو أعمال عظيمة -نذكر طرفاً منها عما قليل- فإن قول اللسان لا يبقى خبراً مجرداً، بل يصبح إنشاءً للالتزام وإعلاناً له ومن ثم كان لا بد أن يصدق العمل ذلك الالتزام أو يكذبه.
وإنما حصل الإخبار المجرد من بعض أحبار اليهود ومن بعض كفار قريش، حيث ثبت إقرارهم برسالة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إخباراً عما في نفوسهم من اعتقاد صدقه في كل ما يقول ولم يثبت لهم ذلك إسلاماً قط.
ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد عن صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: إن حبرين من أحبار اليهود, قال أحدهما للآخر: تعال نذهب إلى هذا النبي ونسأله فقال له صاحبه: لا تقل إنه نبي فإنه إن بلغه ذلك يكن له أربعة أعين، فذهبا إليه وقالا: يا محمد أخبرنا عن التسع آيات التي أعطاها الله سبحانه وتعالى موسى وهارون, فقرأ عليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)) [الأنعام:151] فلما قرأ ذلك, قالا: نشهد أنك نبي، وأرادا أن ينصرفا، فقال صلى الله عليه وسلم ما يمنعكما أن تتبعاني قالا: إن الله قد أخذ علينا العهد أن لا يزال من ذرية داود نبي وإنا نخشى إن أسلمنا أن تقتلنا يهود } .
قال شَيْخ الإِسْلامِ في معرض رده على المرجئة: ''وأيضاً فقد جاء نفر من اليهود إلى النبي فقالوا: نشهد أنك رسول، ولم يكونوا مسلمين بذلك؛ لأنهم قالوا ذلك على سبيل الإخبار عما في أنفسهم، أي نعلم ونجزم أنك رسول الله، قال: فلم لا تتبعوني؟
قالوا: نخاف من اليهود، فعلم أن مجرد العلم والإخبار -أي: عن العلم- ليس بإيمان حتى يتكلم بالإيمان على وجه الإنشاء المتضمن للالتزام والانقياد، مع تضمن ذلك الإخبار عما في أنفسهم '' . .
وإنما ''اتفق المسلمون على أن من لم يأت بالشهادتين فهو كافر '' .
وأن ''من صدق بقلبه ولم يتكلم بلسانه فإنه لا يعلق به شيء من أحكام الإيمان -لا في الدنيا ولا في الآخرة- ولا يدخل في خطاب الله لعباده بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) '' لأنه من حيث البديهة والعقل '' نعلم أن من آمن بقلبه إيماناً جازماً امتنع ألا يتكلم بالشهادتين مع القدرة، فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام '' .
ويقول شَيْخ الإِسْلامِ في بيان هذه العلاقة: ''ونظير هذا لو قيل: إن رجلاً من أهل السنة قيل له: ترضّ عن أبي بكر وعمر، فامتنع عن ذلك حتى قتل، مع محبته لهما واعتقاد فضلهما ومع عدم الأعذار المانعة من الترضي عنهما فهذا لا يقع قط، وكذلك لو قيل: إن رجلاً يشهد أن محمداً رسول الله باطناً وظاهراً، وقد طلب منه ذلك وليس هناك رهبة ولا رغبة يمتنع لأجلها، فامتنع منها حتى قتل، فهذا يمتنع أن يكون في الباطن يشهد أن محمداً رسول الله، ولهذا كان القول الظاهر من الإيمان الذي لا نجاة للعبد إلا به عند عامة السلف والخلف من الأولين والآخرين إلا الجهمية -جهماً ومن وافقه- ( وهم الأشاعرة كما ذكر قبل ذلك في أول الفصل ''.
وقال: ''فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين، وهو كافر باطناً وظاهراً عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير علمائها، وذهبت طائفة من المرجئة -وهم جهمية المرجئة كـالجهم والصالحي وأتباعهما- ( وهم من ذكرنا ) إلى أنه إذا كان مصدقاً بقلبه كان كافراً في الظاهر دون الباطن، وقد تقدم التنبيه على أصل هذا القول وهو قول مبتدع في الإسلام لم يقله أحد من الائمة وقد تقدم أن الإيمان الباطن يستلزم الإقرار الظاهر بل وغيره، وأن وجود الإيمان الباطن تصديقاً وحباً بدون الإقرار الظاهر ممتنع'' .
فإذا تبين أن قول: لا إله إلا الله إنشاء للالتزام بقول القلب وعمله وتحقيقهما، فلنوضح هذه القضية المهمة قائلين:
إن قول القلب: هو متعلق التوحيد الخبري الاعتقادي.
وعمل القلب: هو متعلق التوحيد الطلبي الإرادي.
فإن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر يتضمن: توحيد الأسماء والصفات، وتصديق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل ما أخبر عن ربه من الكتب وما فيها والملائكة وأعمالهم وصفاتهم والنبيين ودعوتهم وأخبارهم، وأحوال البرزخ والآخرة والمقادير وسائر المغيبات.
فالإقرار بهذا والتصديق به مجملاً أو مفصلاً هو قول القلب وهو التوحيد الخبري الاعتقادي.
وعمل القلب -الذي سيأتي تفصيل طرف منه في البحث التالي- يتضمن: توحيد الله عز وجل بعبادته وحده حباً وخوفاً ورجاءً ورغبةً ورهبةً وإنابةً وتوكلاً وخشوعاً واستعانةً ودعاءً وإجلالاً وتعظيماً وانقياداً وتسليماً لأمره الكوني وأمره الشرعي ورضاً بحكمه القدري والشرعي وسائر أنواع العبادة التي صرفها لغير الله شرك.
وهذان هما نوعا التوحيد الذي جاءت به الرسل وأنزل الله به الكتب وشهادة أن لا إله إلا الله، التي هي رأس الأعمال الظاهرة وأول واجب على العبد إنما هي إنشاء للالتزام بهذين النوعين ومن ثَم سميت كلمة التوحيد، ومن هنا كان أجهل الناس بالتوحيد من ظن أن المطلوب بقول: لا إله إلا الله، هو التلفظ بها باللسان فقط.
وقد سبق في فصل حقيقة النفس الإنسانية ما يدل على أن كل عمل من أعمال الإنسان الظاهرة -على اللسان أو الجوارح- لا بد أن يكون تعبيراً عما في القلب وتحقيقاً له ومظهراً لإراداته، وإلا كان صاحبه منافقاً النفاق الشرعي أو العرفي، وأخص من ذلك العبادات، فكل عبادة قولية وفعلية لا بد أن يقترن بها من عمل القلب ما يفرق بينها وبين أفعال الجمادات أو الحركات اللاإرادية أو أفعال المنافقين.
فما بالك برأس العبادات وأعظمها، بل أعظم شيء في الوجود، الذي يرجح بالسماوات والأرض وعامرهن غير الله تعالى؛ وهو شهادة أن لا إله إلا الله؟!
ولهذا يتفاوت قائلو، هذه الكلمة تفاوتاً عظيماً بحسب تفاوت ما في قلوبهم من التوحيد.
فلولا تفاوت أقوال القلوب وأعمالها -ولو أن المراد من كلمة الشهادة هو نطقها- لَمَا كان لِمُوَحدٍ فضل على مُوَحدٍ، ولما كان لصاحب البطاقة -الآتي حديثه- فضل على سواه من قائليها، ولما كان لقائلها باللسان فضل على قائلها بالقلب واللسان، ولما كان لمن قالها من خيار الصحابة السابقين فضل على من قالها يتعوذ بها من السيف في المعركة.
وانظر إلى هذا الحوار بين العزيز الحكيم وبين عبده موسى الكليم؛ حيث: {قال موسى: يا رب علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به، قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله، قال: كل عبادك يقولون هذا!! -زاد في رواية: إنما أريد أن تخصني به- قال: يا موسى، لو أن السماوات السبع -وعامرهن غيري- والأرضون السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله
فكل المسلمين يقولون: ( لا إله إلا الله ) ولكن ما قائل كقائل؛ لأن ما في القلوب يتفاوت مثل تفاوت السماوات والأرض والذرة لا تكاد ترى.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: ''اعلم أن أشعة ( لا إله إلا الله ) تُبدّد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه، فلها نور وتفاوت أهلها في ذلك النور -قوةً وضعفاً- لا يحصيه إلا الله تعالى؛ فمن الناس: من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس، ومنهم: من نورها في قلبه كالكوكب الدري، ومنهم: من نورها في قلبه كالمشعل العظيم، وآخر: كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف.
ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بإيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار؛ بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة، علماً وعملاً ومعرفةً وحالاً.
وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهة ولا شهوة ولا ذنباً إلا أحرقه، وهذا حال الصادق في توحيده الذي لم يشرك بالله شيئاً، فأي ذنب أو شهوة أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها، فسماء إيمانه قد حرست بالنجوم من كل سارق لحسناته، فلا ينال منها السارق إلا على غرة وغفلة لا بد منها للبشر، فإذا استيقظ وعلم ما سرق منه استنقذه من سارقه، أو حصَّل أضعافه بكسبه، فهو هكذا أبداً مع لصوص الجن والإنس، ليس كمن فتح لهم خزانته وولّى الباب ظهره '' .
''وليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شيء ومليكه، كما كان عباد الأصنام مقرين بذلك وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن من محبة الله والخضوع له والذل له وكمال الانقياد لطاعته وإخلاص العبادة له وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال والمنع والعطاء والحب والبغض، ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي والإصرار عليها، ومن عرف هذا عرف قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله } وما جاء من هذا الضرب من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس، حتى ظنها بعضهم منسوخة وظنها بعضهم قيلت قبل ورود الأوامر والنواهي واستقرار الشرع، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار، وأول بعضهم الدخول بالخلود، وقال: المعنى لا يدخلها خالداً، ونحو ذلك من التأويلات المستكرهة''.
''والشارع صلوات الله وسلامه عليه لم يجعل ذلك حاصلاً بمجرد قول اللسان فقط، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين لها في الدرك الأسفل من النار، فلا بد من قول القلب وقول اللسان.
وقول القلب: يتضمن معرفتها، والتصديق بها، ومعرفة حقيقة ما تضمنته من النفي والإثبات، ومعرفة حقيقة الإلهية المنفية عن غير الله المختصة به، التي يستحيل ثبوتها لغيره وقيام هذا المعنى بالقلب؛ علماً ومعرفةً ويقيناً وحالاً -ما يوجب تحريم قائلها على النار- وكل قول رتب الشارع ما رتب عليه من الثواب، فإنما هو القول التام - كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من قال في يوم: سبحان الله وبحمده مائة مرة، غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر}. وليس هذا مرتباً على مجرد اللسان.
نعم من قالها بلسانه، غافلاً عن معناها، معرضاً عن تدبرها، ولم يواطئ قلبه لسانه، ولا عرف قدرها وحقيقتها، راجياً مع ذلك ثوابها حطت من خطاياه بحسب ما في قلبه، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما في الصف واحداً، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض.
وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب.
ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه، ولكن السر الذي ثَقَّل بطاقة ذلك الرجل وطاشت لأجله السجلات، لمّا لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات انفردت بطاقته بالثقل والرزانة.
وإذا أردت زيادة الإيضاح لهذا المعنى فانظر إلى ذكر من قلبه ملئان بمحبتك وذكر من هو معرض عنك غافل ساه، مشغول بغيرك، قد انجذبت دواعي قلبه إلى محبة غيرك وإيثاره عليك، هل يكون ذكرهما واحداً؟
أم هل يكون والداك اللذان هما بهذه المثابة، أو عبداك، أو زوجتاك، عندك سواء؟
وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية وحملته -وهو في تلك الحال- على أن جعل ينوء بصدره ويعالج سكرات الموت، فهذا أمر آخر وإيمان آخر ولا جرم أن ألحق بالقرية الصالحة وجُعِلَ من أهلها.
وقريب من هذا: ما قام بقلب البغي التي رأت ذلك الكلب -وقد اشتد به العطش يأكل الثرى، فقام بقلبها ذلك الوقت- مع عدم الآلة وعدم المعين وعدم من تُرائيه بعملها ما حملها على أن غررت بنفسها في نزول البئر وملء الماء في خفها ولم تعبأ بتعرضها للتلف وحملها خفها بفيها وهو ملئان، حتى أمكنها الرّقي من البئر، ثم تواضعها لهذا المخلوق الذي جرت عادة الناس بضربه، فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب، من غير أن ترجو منه جزاءً ولا شكوراً، فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء فغفر لها.
فهكذا الأعمال والعمال عند الله والغافل في غفلةٍ من هذا الإكسير الكيماوي، الذي إذا وضع منه مثقال ذرة على قناطير من نحاس الأعمال قلبها ذهباً والله المستعان '' .
وقد فصل شَيْخ الإِسْلامِ معنى الإقرار وبالشهادتين واستلزام ذلك للعمل والانقياد بكلام نفيس سنورده -أو بعضه- في مبحث التولي عن الطاعة -بإذن الله- من الباب الخامس.