روى الإمام مسلم في صحيحه {عن حذيفة بن اليمان- رضي الله عنه- قال: كنا عند عمر فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الفتنة كما قال؟
قال: فقلت:أنا!
قال: إنك لجريء، وكيف قال؟
قال: قلت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره، يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فقال عمر: ليس هذا أريد، إنما أريد التي تموج كموج البحر!
قال: فقلت: مالك ولها يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها باباً مغلقاً!
قال: أفيكسر الباب أم يفتح؟
قال: لا. بل يكسر!
قال: ذلك أحرى ألا يغلق أبداً.
قال: فقلنا لـحذيفة: هل كان عمر يعلم من الباب؟
قال: نعم, كما يعلم أن دون غد الليلة، إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط.            
قال -أي الراوي عن حذيفة وهو شقيق-: فهبنا أن نسأل حذيفة من الباب، فقلنا لـمسروق فسأله، فقال: عمر
}
أمّا كيف كسر الباب، فقد استفاض في كتب التواريخ، وروي بأسانيد متضافرة أن الهرمزان الفارسي المجوسي، وجفينة النصراني الصليبي قد تآمرا على حياة الفاروق، ونفَذَّ أبو لؤلؤة- عليه من الله ما يستحق- تلك المؤامرة الدهياء، وانكسر الباب.
ولم يقف التآمر الصليبي المجوسي عند هذا الحد، فقد انضم إليهما شر الثلاثة المكر اليهودي ممثلاً في عبد الله بن سبأ وخلاياه السرية، فأضرمت نار فتنة هوجاء ذهب ضحيتها الخليفة المظلوم ذو النورين عثمان رضي الله عنه ثم تتابعت الفتن كقطع الليل المظلم وما تزال.
كان مقتل ذي النورين فاجعةً كبرى، ليس لأن الأمة فقدت خليفتها وأفضلها بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصاحبين فحسب، ولكن -أيضاً- لأن هذه الأمة المباركة المصطفاة ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ))[آل عمران:110] بدأت تتزحزح عن قمتها الشاهقة التي لم تبلغها قبلها أمة من الأمم.
لقد كان ذلك إيذاناً بانقضاء عصر ما كان التاريخ ليحلم بمثله ولا في خيال الحكماء , عصر الجماعة الإنسانية الفذة التي تعيش كالملائكة المطمئنين في الأرض.
ولا شك أن لله تعالى حكماً بالغة جرت بها مقاديره -له الحمد عليها علمناها أم جهلناها- تحولت هذه الجماعة بمقتضاها من بركان إيماني يعصف بدول الكفر ذات اليمين وذات الشمال إلى أطراف في فتنة داخلية عمياء.
ومع أن الاصطفاء الرباني لهذه الأمة تجلى حتى في هذا الموقف الحالك، فأثبتت أنها أفضل الأمم خصومة -كما هي أسماها وفاقاً- فقد كانت دسائس الحاقدين ومعاول الهدامين توسع الشقة، وتنكأ الجراح، وتتلاعب بمشاعر الدهماء مستغلة ما أحدثته الفاجعة من اضطراب وارتباك.
وانفض المأتم العظيم عن آراء متضاربة ووجهات متباينة:
1- فقد رأت طائفة أن أول واجب على الأمة هو الثأر لخليفتها الشهيد والقصاص من الخونة السفاحين!
2- ورأى آخرون أن أول ما ينبغي هو اجتماع الكلمة واستتباب الأمور والتجلد حتى تتكشف ذيول المؤامرة ثم يكون استئصال شأفتها وقطع دابر دواعيها.
3- ورأت طائفة ثالثة أن الخليفة المظلوم لم يتحمل ذلك الحصار الآثم، وينه أتباعه المؤمنين عن فكه إلا حرصاً على ألا تراق قطرة دم أو تثور أدنى فتنة بين أمة الإسلام، فالأولى بمن بعده جميعاً ألاّ يحركوا ساكناً وألا يكونوا طرفاً في أي نزاع -مهما بدت وجاهته- بل إن بعض من يرى هذا الرأي قد خرج من المدينة منذ أن أطلت الفتنة برأسها، وآثروا الابتعاد حتى تسكن العاصفة.
وكان في ثغور الجهاد وأطراف البلاد فئات لم تعلم عن سير الأمور شيئاً، فلما صدمتها الفاجعة أذهلها الألم عن التفكير، ووقاها بُعد الشقة شر الخوض في الفتنة.
4- ونبتت فئة أخرى من أحداث الأسنان وضيقي الأفق الذين ترعرعوا في البداوة، وولدوا من سلالة الأعراب، ونشئوا على الجلافة، فقالوا: إن نزول عثمان عن مرتبة الشيخين مبرر كاف لقتله، وإنه ما من إمام إلى قيام الساعة لا يسير سيرتهما إلا استوجب الخلع أو القتل.
أما الفئة الآثمة المتآمرة، فقد عادت إلى أوكارها، واندست في صفوف الأمة، تستجمع قوتها، وتخطط للمرحلة التالية مدفوعة بيقينها أن أي اجتماع للأمة، فإنه سيتقاضى رءوسها الفاجرة.
وأدرك بعض من شارك في الفتنة وخدع بمطلب المتآمرين صدق ما روي في الحديث: {عليكم بالجماعة، فإن ما تكرهونه في الجماعة خير مما تحمدونه في الفرقة}.
فقد كان غاية ما نقموا على أمير المؤمنين عثمان أنه حمى الحمى, وأتم الصلاة في السفر بـمكة, وآثر أقرباءه, وتوسع في الإنفاق من بيت المال والفيء.
فماذا كانت نتيجة الفتنة ومآل الأمة بعدها في الآجل والعاجل؟
لقد ثُلم حمى الإسلام نفسه، وهدمت مساجد وثغور، وتولَّى الأمور من لا يساوي بالنسبة لأولئك الأقرباء شيئاً، وأصبح بيت المال بيت مال الملوك والسلاطين.
وكان ما كان من أمور لا نملك معها إلا أن نقول: قدَّر الله وما شاء فعل.
ولما كان الجانب الذي يهمنا الآن من هذه الفتنة هو ما يتعلق بظهور فكر المرجئة، فسوف نستعرض موقف الفئات التي كان لها أثر في نشأة الإرجاء إما على الحقيقة وإما على الادعاء.
  1. الفئات التي كان لها أثر في نشأة الإرجاء

  2. براءة الصحابة رضي الله عنهم من الإرجاء ذاتاً وموضوعاً

  3. نماذج من آراء المستشرقين ومقلديهم في الموضوع