روى الإمام مسلم في صحيحه {عن حذيفة بن اليمان- رضي الله عنه- قال: كنا عند عمر فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الفتنة كما قال؟
قال: فقلت:أنا!
قال: إنك لجريء، وكيف قال؟
قال: قلت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره، يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فقال عمر: ليس هذا أريد، إنما أريد التي تموج كموج البحر!
قال: فقلت: مالك ولها يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها باباً مغلقاً!
قال: أفيكسر الباب أم يفتح؟
قال: لا. بل يكسر!
قال: ذلك أحرى ألا يغلق أبداً.
قال: فقلنا لـحذيفة: هل كان عمر يعلم من الباب؟
قال: نعم, كما يعلم أن دون غد الليلة، إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط.            
قال -أي الراوي عن حذيفة وهو شقيق-: فهبنا أن نسأل حذيفة من الباب، فقلنا لـمسروق فسأله، فقال: عمر
}
أمّا كيف كسر الباب، فقد استفاض في كتب التواريخ، وروي بأسانيد متضافرة أن الهرمزان الفارسي المجوسي، وجفينة النصراني الصليبي قد تآمرا على حياة الفاروق، ونفَذَّ أبو لؤلؤة- عليه من الله ما يستحق- تلك المؤامرة الدهياء، وانكسر الباب.
ولم يقف التآمر الصليبي المجوسي عند هذا الحد، فقد انضم إليهما شر الثلاثة المكر اليهودي ممثلاً في عبد الله بن سبأ وخلاياه السرية، فأضرمت نار فتنة هوجاء ذهب ضحيتها الخليفة المظلوم ذو النورين عثمان رضي الله عنه ثم تتابعت الفتن كقطع الليل المظلم وما تزال.
كان مقتل ذي النورين فاجعةً كبرى، ليس لأن الأمة فقدت خليفتها وأفضلها بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصاحبين فحسب، ولكن -أيضاً- لأن هذه الأمة المباركة المصطفاة ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ))[آل عمران:110] بدأت تتزحزح عن قمتها الشاهقة التي لم تبلغها قبلها أمة من الأمم.
لقد كان ذلك إيذاناً بانقضاء عصر ما كان التاريخ ليحلم بمثله ولا في خيال الحكماء , عصر الجماعة الإنسانية الفذة التي تعيش كالملائكة المطمئنين في الأرض.
ولا شك أن لله تعالى حكماً بالغة جرت بها مقاديره -له الحمد عليها علمناها أم جهلناها- تحولت هذه الجماعة بمقتضاها من بركان إيماني يعصف بدول الكفر ذات اليمين وذات الشمال إلى أطراف في فتنة داخلية عمياء.
ومع أن الاصطفاء الرباني لهذه الأمة تجلى حتى في هذا الموقف الحالك، فأثبتت أنها أفضل الأمم خصومة -كما هي أسماها وفاقاً- فقد كانت دسائس الحاقدين ومعاول الهدامين توسع الشقة، وتنكأ الجراح، وتتلاعب بمشاعر الدهماء مستغلة ما أحدثته الفاجعة من اضطراب وارتباك.
وانفض المأتم العظيم عن آراء متضاربة ووجهات متباينة:
1- فقد رأت طائفة أن أول واجب على الأمة هو الثأر لخليفتها الشهيد والقصاص من الخونة السفاحين!
2- ورأى آخرون أن أول ما ينبغي هو اجتماع الكلمة واستتباب الأمور والتجلد حتى تتكشف ذيول المؤامرة ثم يكون استئصال شأفتها وقطع دابر دواعيها.
3- ورأت طائفة ثالثة أن الخليفة المظلوم لم يتحمل ذلك الحصار الآثم، وينه أتباعه المؤمنين عن فكه إلا حرصاً على ألا تراق قطرة دم أو تثور أدنى فتنة بين أمة الإسلام، فالأولى بمن بعده جميعاً ألاّ يحركوا ساكناً وألا يكونوا طرفاً في أي نزاع -مهما بدت وجاهته- بل إن بعض من يرى هذا الرأي قد خرج من المدينة منذ أن أطلت الفتنة برأسها، وآثروا الابتعاد حتى تسكن العاصفة.
وكان في ثغور الجهاد وأطراف البلاد فئات لم تعلم عن سير الأمور شيئاً، فلما صدمتها الفاجعة أذهلها الألم عن التفكير، ووقاها بُعد الشقة شر الخوض في الفتنة.
4- ونبتت فئة أخرى من أحداث الأسنان وضيقي الأفق الذين ترعرعوا في البداوة، وولدوا من سلالة الأعراب، ونشئوا على الجلافة، فقالوا: إن نزول عثمان عن مرتبة الشيخين مبرر كاف لقتله، وإنه ما من إمام إلى قيام الساعة لا يسير سيرتهما إلا استوجب الخلع أو القتل.
أما الفئة الآثمة المتآمرة، فقد عادت إلى أوكارها، واندست في صفوف الأمة، تستجمع قوتها، وتخطط للمرحلة التالية مدفوعة بيقينها أن أي اجتماع للأمة، فإنه سيتقاضى رءوسها الفاجرة.
وأدرك بعض من شارك في الفتنة وخدع بمطلب المتآمرين صدق ما روي في الحديث: {عليكم بالجماعة، فإن ما تكرهونه في الجماعة خير مما تحمدونه في الفرقة}.
فقد كان غاية ما نقموا على أمير المؤمنين عثمان أنه حمى الحمى, وأتم الصلاة في السفر بـمكة, وآثر أقرباءه, وتوسع في الإنفاق من بيت المال والفيء.
فماذا كانت نتيجة الفتنة ومآل الأمة بعدها في الآجل والعاجل؟
لقد ثُلم حمى الإسلام نفسه، وهدمت مساجد وثغور، وتولَّى الأمور من لا يساوي بالنسبة لأولئك الأقرباء شيئاً، وأصبح بيت المال بيت مال الملوك والسلاطين.
وكان ما كان من أمور لا نملك معها إلا أن نقول: قدَّر الله وما شاء فعل.
ولما كان الجانب الذي يهمنا الآن من هذه الفتنة هو ما يتعلق بظهور فكر المرجئة، فسوف نستعرض موقف الفئات التي كان لها أثر في نشأة الإرجاء إما على الحقيقة وإما على الادعاء.
  1. الفئات التي كان لها أثر في نشأة الإرجاء

    إن الإرجاء من حيث هو موقف نفسي يمكن أن يوجد في هذه الفتنة العمياء وما تلاها، كما يمكن أن ينشأ في أي قضية مماثلة، فإن من سنن الاجتماع أن أي نزاع يشجر بين طائفتين قد يفرز فئة ثالثة محايدة -لأي سبب من أسباب الحياد- وهكذا وجد في عصر الفتنة الأولى وما تلاها أناس اتخذوا هذا الموقف الحياد في الجملة، ولكن شتان بين قوم وقوم،وإن كان موقفهما في الظاهر سواء.
    فقد كانت الفئة المحايدة حينئذٍ تنقسم في حقيقتها أقساماً، بعضها وافق عين الصواب، وبعضها حاد عن الجادة، ووضع قدمه على طريق أوله الحياد وآخره الضلال، وذلك بحسب الدوافع الاعتقادية لموقف كل منهم.
    وأصل هذا التفاوت أن الموقف العام نفسه يُعد فريداً في التاريخ، فليس هناك ما يمكن أن يشبهه من الخلافات الدينية أو السياسية في غير هذا الجيل المصطفى المختار.
    وذلك أن العادة في مثل هذه الخلافات أن الحياد ليس إلا موقفاً سلبياً يمليه توازن المصالح أو التردد والشك، ولكننا هنا أمام صورة فذة يكون فيها الحياد -إن أسميناه كذلك- هو الموقف الإيجابي الذي يحتل مركز الأفضلية بحكم النصوص، في حين يتقاسم الطرفان المتنازعان مركزي الفاضل والمفضول.
    وإذا كان طرفا النزاع هما أهل الشام وأهل العراق- وكلاً آتاه الله فضلاً- فإن الطائفة الفُضلى هي تلك المجموعة من كبار الصحابة رضي الله عنهم الذين أمسكوا عن الفتنة ولم يكونوا يرون السيف بين المسلمين أصلاً.
    وليس إمساكهم مجرد حياد سلبي -وهو ما ينطبق على موقف المرجئة فيما بعد- بل هو موقف إيجابي شرعي يستند على النصوص الثابتة، كما سنفصل بإذن الله.
    وهذه الحقيقة غابت عن أذهان بعض العلماء، لا سيما من فقهاء العراق ومن تبعهم، وكذا بعض أصحاب الأهواء قديماً- ثم تلاهم من تلاهم من الحاقدين وجهلة الباحثين المحدثين، الذين زادوا بأن نسبوا الصحابة للإرجاء أو نسبوا المرجئة للصحابة.
    ولكن -للإنصاف- لا بد أن نذكر سبب خطأ أولئك العلماء، وهو سبب كثيراً ما يقع فيه الباحثون، ألا وهو التعميم، ولو استخدمنا الاصطلاحات المنطقية لقلنا: إن هؤلاء جعلوا المحمول موضوعاً والموضوع محمولاً، فانقلبت القضية وكذبت.
    فإن قضية: (إن المرجئة ممسكون عن الفتنة صادقة) فإذا أصبحت القضية كل الممسكين عن الفتنة مرجئة صارت كاذبة.
    ولذلك كان لزاماً علينا أن نفصل أقسام المحايدين لنرى أن هذا الحكم إنما ينصب على بعضهم لا على الجميع:
    1- الفئة الأولى:
    بعض كبار الصحابة وأجلائهم رضي الله عنهم مثل: سعد بن أبي وقاص, وعبد الله بن عمر, وأبي هريرة, وزيد بن ثابت, وأسامة بن زيد, ومحمد بن مسلمة، وغيرهم.
    وقد آثرنا- إجلالاً منا لصحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واحتساباً في الذب عنهم- أن نفردهم بمبحث مستقل تال .
    2- الفئة الثانية:
    بعض سكان الأطراف والمرابطين على ثغور الجهاد، وهؤلاء كانوا يجالدون الأعداء، ويفتحون الأمصار، فما شعروا إلا والنبأ ينزل عليهم بمقتل أمير المؤمنين عثمان كالصاعقة، ثم فوجئوا بما تلاه من أحداث، فما استطاعوا أن يستبينوا رأياً فيتبعوه أو يرجحوا طرفاً فيوالوه، فآثروا مسالمة الفريقين المتقاتلين والركون إلى حياد لا حيلة لهم في قبوله.
    وعن هؤلاء يقول الحافظ ابن عساكر: إنهم هم الشكاك الذين شكوا، وكانوا في المغازي، فلما قدموا المدينة بعد مقتل عثمان، وكان عهدهم بالناس وأمرهم واحد ليس بينهم اختلاف، فقالوا: تركناكم وأمركم واحد ليس بينكم اختلاف، وقدمنا عليكم وأنتم مختلفون.
    فبعضكم يقول: قتل عثمان مظلوماً وكان أولى بالعدل وأصحابه.
    وبعضكم يقول: كان علي أولى بالحق وأصحابه.
    كلهم ثقة وكلهم عندنا مصدق، فنحن لا نتبرأ منهما ولا نلعنهما، ولا نشهد عليهما، ونرجئ أمرهما إلى الله حتى يكون هو الذي يحكم بينهما.
    فهؤلاء إن صح إطلاق الإرجاء على موقفهم فهو إرجاء حيرة لا إرجاء فكرة، وهذه الحيرة خاصة بقضية الحكم على المختلفين بالخطأ أو الصواب، أما موالاتهم والإقرار بفضلهم وسابقتهم فلم يكن موضوع شك عندهم.
    3- الفئة الثالثة:
    وهي فئة من ذلك الصنف البشري المحدود الإدراك الذي يضيق أفقه أو علمه عن تفهم الخلاف، فتثور نفسه ساخطة على طرفيه حانقة عليهما دون تبصر في الدوافع أو تريث في الحكم، فمنهم فرقة أعلنت نقمتها وسخطها على كل الأطراف، وربما كان أصل ضجرها وحنقها أن المختلفين هم أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم تكن صحبتهم دافعاً لالتماس العذر، بل كانت- حسب فهمهم- مبرراً للعداء والبراء، إذ قالوا: كيف يختلفون ويتـقاتـلون وهم أصحاب رسول الله وأعلم الناس بالدين، والأصل أن يكونوا أكثر الأمة تمسكاً ووفاقاً ودعوةً وجهاداً؟! إذن لقد انحرفوا عما كانوا عليه زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلا شك ولا ريب، ومن ثم فلا حرمة لمن نكص على عقبيه، ولا اعتبار لسابقته في الإسلام ما دامت هذه خاتمته!!!
    هذه الفكرة تبناها الفكر الخارجي الذي بلغ به حنقه على الأطراف جميعها إلى تدبير مؤامرة لاغتيال زعمائها علي ومعاوية وعمرو بن العاص -رضي الله عن الجميع- على ما هو مشهور في التاريخ.
    وعلى رأي الملطي رحمه الله -هذه الفئة هي أصل المعتزلة ولا يخفى ما بين المعتزلة والخوارج من تشابه لا سيما في حكم مرتكب الكبيرة.
    كما أن هذا هو أصل المذهب الذي يرى تخطئة وتفسيق أو تكفير كلا الطائفتين، وهو مذهب كثير من أهل الأهواء من المعتزلة والخوارج وبعض المتكلمين والمتفلسفين.
    وكان من هذه الفئة فرقة أقل غلواً وشططاً، فقالوا: ما حدث من الصحابة ما حدث وهم على الدرجة العليا من الفضل والعلم- إلا وفي الأمر ما لا نستطيع إدراكه ولا نأمن مغبة الحكم عليه، وإذا كنا عاجزين عن تصور حقيقة القضية، ولم يكن بالإمكان ترجيح أحد طرفيها، فلنقف موقفاً وسطاً بين القول بأنهم على الحق -الذي يتنافى مع ما بَدر منهم من خلاف واقتتال وبين القول بأنهم على الباطل- وهو ما يتنافى مع فضلهم وسابقتهم.
    وهذا الموقف -في رأيهم- هو أن نبرئ أنفسنا من الوقوف مع أحد منهم أو عليه، فَنكل أمر الجميع إلى الله، وهو الذي يتولى حسابهم، أما نحن فلا نوالي أحداً منهم ولا نعاديه، ولا نشهد له بحق ولا باطل.
    ولم تستطع هذه الفرقة الأخيرة أن تتجرأ على تكفير الصحابة كحال نظيرتها الأولى، ورأوا أن الذي يتفق مع موقفهم، هو اعتقاد أن ما ارتكبوه -أي: الصحابة- هو دون الشرك بالله تعالى، ومن ثَم فهم داخلون تحت المشيئة.
    وهذه هي الطائفة التي يصح أن توصف بأنها أصل الإرجاء، سواء منه ما نشأ في أحضان الخوارج وهو الأعم الأغلب، أو ما كان آراءً فرديةً ومواقف نفسيةً، مثلما ينسب إلى الحسن بن محمد ونحوه على ما سيأتي تـفصيله في المباحث التالية.
  2. براءة الصحابة رضي الله عنهم من الإرجاء ذاتاً وموضوعاً

    إن البحث في نشأة الفكر الإرجائي يستلزم منا بالضرورة أن ندحض بالحجج الصريحة ما ذهب إليه بعض الناس، من القول بأن أصل المرجئة هو تلك الطائفة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي لم تخض فيما خاض فيه غيرها من الفتن، وفضلت الاعتزال والإمساك عن الدخول في تلك المأساة الكبرى.
    وهذا الزعم تبناه قديماً بعض رءوس الضلالة من المتكلمين وأعداء الصحابة, كـالرافضة والخوارج، ولكنه ظل قولاً مهلهلاً مندثراً، حتى بعثه المستشرقون وأتباعهم من المستغربين، فدرج على ألسنة المؤرخين والدارسين للفرق، وتداولوه حتى أصبح كأنه حقيقة مسلمة، وأرجعوا الفضل في اكتشافها إلى المنهج العلمي الذي انتهجه المستشرقون!!
    والمسألة بالنسبة لنا بدهية معلومة من الدين بالضرورة؛ فالكلام في أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دين، والدين لا يؤخذ عن المسلم الفاسق، ولا اعتبار لرأيه فيه، فضلاً عن المبتدع الضال كـالكعبي؛ ، والجاحظ فضلاً عن الكافر الحاقد كعامة المستشرقين.
    والله تعالى قد قال في الفاسقين: ((وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً))[النور:4] والحكم على أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم من مجرد الشهادة، لأنه دين واعتقاد، وإذا كان من شريعتنا رد شهادة المسلم الفاسق في دعاوى الحقوق الدنيوية, فما بالك بمن يتجرأ على خيار الأمة وأفضل البشر بعد الأنبياء من الصليبيين واليهود؟!
    لقد مقت سلف الأمة عمرو بن عبيد، وضللوه وبدعوه من أجل طعنه في المقتتلين من الصحابة، هذا مع ما هو مشهور عنه من الزهد والتعبد ومجانبة السلاطين، فكيف يلتفت المسلم إلى آراء أهل الكتاب الذين تغلي مراجل قلوبهم بالحقد على الإسلام، وتنفث ألسنتهم السُمَ الزُعاف عليه، وما تخفي صدورهم أعظم؟!
    فماذا نتوقع من جولد زيهر اليهودي إلا مثلما ذهب إليه سلفه عبد الله بن سبأ أو أعظم، وماذا نظن بفان فلوتن، وكريمر ووويلهاوسن ، ونيكلسون... وأضرابهم أن يقولوا، والحرب الصليبية لم تتوقف لحظة واحدة، ولن تتوقف حتى تكون الملحمة مع الروم بأرض الشام بين يدي الساعة كما صح عن الصادق المصدوق؟
    وإن من يقبل كلام هؤلاء -بل يجله ويعظمه- يلزمه أن يقبل كلام عبد الله بن سبأ، وحمدان قرمط، وابن الراوندي، وميمون القداح، وابن النغريلة، وإلا فإنه متناقض، أو مخدوع بالمسحة العلمية الحيادية التي يزعمها هؤلاء المستشرقون.
    وما كان لنا أن نأبه بآراء المستشرقين ونشغل بردها، لا في هذه القضية ولا فيما هو دونها، فنحن لا نتوقع منهم إلا هذا ومثله، فقد تبين لي من قراءة كافية في كتبهم أنهم قوم بهت- كما وصف عبد الله بن سلام رضي الله عنه أجدادهم اليهود- وأنهم لو كان الافتراء على الإسلام في السماء لاتخذوا إليه سلماً، ولو كان في الأرض لابتغوا إليه نفقاً.
    ولكن اقتداء كثير من الكتاب المنتسبين إلى الإسلام بهم ومتابعتهم لرأيهم، واستناد هؤلاء وأولئك إلى آراء مخطئة أو أقاويل بدعية، جعل تبيان هذه القضية أمراً ضرورياً.
    فقد نقل عنهم واقتدى بهم علماء شريعة مشهورون، ومتخصصون في العقيدة بارزون، ومؤرخون وأدباء لهم مكانتهم، وذلك مثل: الشيخ محمد أبو زهرة، والدكتور علي سامي النشار، والدكتور مصطفى حلمي، والدكتور نعمان القاضي...فضلاً عن أحمد أمين وطه حسين وسهير القلماوي وشاكر مصطفى وأمثالهم وأتباعهم.
    ويعجب الباحث أيما عجب حين يجد علماء وأساتذة ومؤرخين عرباً مسلمين يعتمدون اعتماداً كلياً على الكتيّب -بل المقال- الضحل السقيم الذي كتبه فان فلوتن بعنوان السيطرة العربية أو الاستعمار العربي، والذي ترجموه مخففاً باسم السيادة العربية!!
    وإنني لأجزم يقيناً- ولو حلف غيري ما عددته حانثاً- هؤلاء الأساتذة لو قدر لأحدهم أن يناقش ما كتبه فلوتن باعتباره رسالة أو بحثاً لأحد الطلبة الأزهريين، لما منحه أدنى درجة علمية، ولأوسعه نقداً وذماً كما هو الحال في كثير من الرسائل العلمية التي هي أعلى مستوى في ذلك.
    فهل كون الكاتب مستشرقاً يجعل ما كتبه مقبولاً، بل حجة ينقل عنها الأساتذة المتخصصون؟! والأنكى من ذلك أن يعارض به كلام المؤرخين المسلمين، حتى في مسألة تاريخية بحتة، كتحديد وفاة الحارث بن سريج!!
    ويبدو لي أن بعض المستشرقين العرب مثل: أحمد أمين وزميله طه حسين وعبد الحميد العبادي قد تنبهوا لما قد يثار عن هذه المسألة، فما أن وجدوا نصاً للنووي يشعر بما يريدون حتى ألحقوه في هامش الكتاب، وكأنما هو أصل مستندهم أو بعضه.
    وبصرف النظر عن الحقد والتعصب لدى المستشرقين، نقول: إن سبب انحراف منهجهم ومن اتبعهم في هذا الموضوع هو القياس الفاسد؛ فلما كانت الخلافة الإسلامية عندهم لا تختلف عن أية حكومة مذهبية، وكان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مجرد أشخاص لا يختلفون عن سائر الناس في المطامع والكيد السياسي، فإن الخلاف الذي وقع بينهم لا يعدو في أنظار هؤلاء أن يكون أزمة صراع على السلطة، من ذلك النوع الذي تشهده الحكومات الأوروبية منذ انقراض عصر الملكيات التقليدية!
    أما التزكية الإيمانية والتربية النبوية فأثرها عند هؤلاء محدود أو معدوم، وإليك رأي مؤلفي فجر الإسلام ''حين يتساءلون: إلى أي حد تأثر العرب بالإسلام؟, وهل انمحت تعاليم الجاهلية ونزعات الجاهلية بمجرد دخولهم في الإسلام؟ الحق أن ليس كذلك، وتاريخ الأديان والآراء يأبى ذلك كل الإباء، فالنزاع بين القديم والجديد، والدين الموروث والحديث يستمر طويلاً، ويحل الجديد محل القديم تدريجياً، وقل أن يتلاشى بتاتاً ''
    ولذلك تم تصنيف الفرق الإسلامية وفقاً لتصنيف الأحزاب السياسية والدينية الأوروبية، وابتدءوا ذلك منذ وفاة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل وفي حياته!!
    فجعلوا في الأمة يميناً ويساراً ووسطاً، وفي كل من اليسار واليمين متطرفون ومعتدلون... إلخ، وكذلك قسموها إلى ديموقراطيين وثيوقراطيين ودكتاتوريين... إلخ.
    ولسنا في مقام تفصيل المهازل الساخرة التي أدى إليها تطبيق هذا القياس الفاسد، والخلافات التي لا يقوم أي منها على أساس موضوعي؛ مثل أن يجعل أحدهم الشيعة من اليسار المتطرف، والآخر يجعلها من اليمين المعتدل، ويجعل الخوارج بالعكس...وهكذا.
    ولكن الذي يهمنا هنا هو: أن هذا التصنيف أدى إلى اعتبار الطائفة الممسكة عن الفتنة- من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هي مجرد طائفة سياسية محايدة، ومن ثم جرى طرد القياس على كل طائفة شابهتها في الموقف أو بعضه، ثم إنهم لما رأوا أن لبعض هذه الفرق- التي تنتمي في أصل تصنيفهم إلى الوسط المحايد، كـالمعتزلة وثورة الحارث بن سريج- آثاراً إيجابية في عالمي السياسة والفكر، كان لابد لهم من التعسف والتكلف، فقالوا: إن المرجئة تحولت من تيار الوسط إلى تيار اليسار بفعل التناقضات السياسية... أو ما أشبه هذا من التعليلات!
    فليس مهمّاً لديهم أن تنقلب حقائق التاريخ، فتصبح المعتزلة مرجئة، وتصبح المرجئة حركة ثورية يسارية، وإنما المهم أن تظل معاييرهم الاعتباطية هي الأصل الذي لا ينقلب ولا ينتقض!
    وها هو ذا ما جاء في كتاب فجر الإسلام الذي يمثل خلاصة آراء المستشرقين، والذي نقل عنه أكثر من بعده، ومنهم أبو زهرة:
    '' إن الشيعة والخوارج كانا أول أمرهما حزبين سياسيين تكونا حول الخلافة، وإن رأي الخوارج فيها رأي ديمقراطي، ورأي الشيعة رأي ثيوقراطي، أما المرجئة فكانت.. حزباً سياسياً محايداً.
    ونواة هذه الطائفة كانت بين الصحابة في الصدر الأول، فإننا نرى أن جماعة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امتنعوا أن يدخلوا في النزاع الذي كان في آخر عهد عثمان -مثل: أبي بكرة، وعبد الله بن عمر، وعمران بن حصين '' .
    ثم ساق حديث أبي بكرة الآتي، وقال: ''هذه النزعة إلى عدم الدخول في الحروب بين المسلمين بعضهم وبعض هي الأساس الذي بني عليه مذهب الإرجاء، ولكنه لم يتكون كمذهب -كما رأينا- إلا بعد ظهور الخوارج والشيعة.
    وبعد أن كان مذهباً سياسياً أصبح- بعد- يبحث في أمور لاهوتية، وكانت نتيجة بحثهم تتفق ورأيهم السياسي!! ''
    وفي الحاشية يعلق على ذلك قائلاً: يقول النووي على مسلم: "إن القضايا كانت مشتبهة، حتى أن جماعة من الصحابة تحيروا فيها، فاعتزلوا الطائفتين ولم يقاتلوا، ولم يتيقنوا الصواب ''.
    ونحن قد سبق أن بيّنّا أن الممسكين عن الفتنة أقسام مختلفة، وهنا لا بد من بيان حقيقة موقف الصحابة -رضي الله عنهم-، وخطأ من نسب إليهم الإرجاء، سواء أكان إرجاء شك وحيرة أم إرجاء اعتقاد وبدعة، والأمر في حقيقته يرجع إلى مسألة فقهية، وهي حكم قتال الفتنة الذي جرى بين الصحابة، وحكم قتال الفتنة بين المسلمين عامة .
    ومع إيماننا بأن الأولى هو الكفُّ عما شجر بين الصحابة -رضي الله عنهم- فإنه لا حرج في عرض مواقفهم على النصوص الشرعية التي أمر الله تعالى بالرد إليها في كل نزاع، لا سيما وهي- ولله الحمد- تدل على صحة ما يعتقده أهل السنة والجماعة فيهم، وخاصة أهل الحديث، كـأحمد وسفيان، بخلاف ما ذهب إليه أهل الرأي وكثير من الفقهاء المتأخرين، مع ما في هذا من مصالح، كأخذ العبرة، ونفي التهمة تفصيلاً بعد نفيها إجمالاً فنقول: إن النووي -رحمه الله- شافعي المذهب، وكثير من متأخري الشافعية يرون تصويب علي رضي الله عنه وتخطئة من حاربه أو توقف عن الحرب معه، ولكن النووي رجل محدث، وقد رأى من صحة أحاديث النهي عن القتال في الفتنة وكثرتها ما لم يستطع معه الجزم بتخطئة من قعد عن نصرة علي -أعني الممسكين عن الخوض في الفتنة- فأراد التوفيق والتأويل، فاعتذر عن هؤلاء بأنهم لم يتبين لهم الصواب مع علي أم مقاتليه، ووضع في اعتباره أن القول بترك قتال المسلمين مطلقاً يؤدي إلى جرأة المفسدين وتطاول المجرمين- وهي العلة التي يذكرها الفقهاء المتأخرون كثيراً - فجعل الإمساك عن ذلك مخصوصاً بهذه الحالة وحدها.
    واعتذر عن العمل بالأحاديث بقوله: ''تتأول الأحاديث على من لم يظهر له الحق، أو على طائفتين ظالمتين لا تأويل لواحدة منهما ''.
    وهذا الذي ذهب إليه هو وغيره من الفقهاء يتبين صوابه أو خطؤه باستعراض مواقف الممسكين عن الفتنة واحداً واحداً:
    1- فهذا أسامة بن يزيد- على عظيم صلته بـعلي رضي الله عنهما- يقول عنه مولاه حرملة: [[أرسلني أسامة إلى علي، وقال: إنه سيسألك الآن فيقول: ما خلف صاحبك؟ فقل له: يقول لك: لو كنت في شدق الأسد لأحببت أن أكون معك فيه، ولكن هذا أمر لم أره]].
    فـأسامة يفرق بين العلاقة الحميمة وبين أمر لم يجد له في الشرع مخرجاً، ولو رآه جائزاً لما تردد عنه.
    وينقل الحافظ عن ابن بطال: أن أصل موقف أسامة هذا هو ما نذره على نفسه يوم أن قتل الرجل الذي قال: لا إله إلا الله- أنه لا يقاتل مسلماً أبداً.
    2- وهذا أبو موسى الأشعري، وصاحبه أبو مسعود الأنصاري، يعيبان على عمار مشاركته في القتال- وقد كان مع علي- قال شقيق بن سلمة: '' كنت جالساً مع أبي مسعود وأبي موسى وعمار، فقال أبو مسعود: ما من أصحابك أحد إلا لو شئت لقلت فيه غيرك، وما رأينا منك شيئاً منذ صحبت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعيب عندي من استسراعك في هذا الأمر.
    قال عمار: يا أبا مسعود ما رأيت منك ولا من صاحبك هذا شيئاً منذ صحبتما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعيب عندي من إبطائكما في هذا الأمر''
    قال الحافظ: ''كان أبو مسعود على رأي أبي موسى في الكفِّ عن القتال؛ تمسكاً بالأحاديث الواردة في هذا الأمر''.
    فليس هناك اشتباه، بل القضية من الوضوح بحيث يعيبان عماراً
    3- وأما عبد الله بن عمر، فيتخذ هذا موقفاً مطرداً، فهـو لم يشترك في أي قتال بين المسلمين قط، لا زمن علي ولا فيما بعد، لأنه يراه كله قتال فتنة.
    روى البخاري: ''أن رجلاً جاءه، فقال: يا أبا عبد الرحمن، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا))[الحجرات:9] إلى آخر الآية، فما يمنعك ألا تقاتل كما ذكر الله في كتابه؟
    فقال: يا ابن أخي، أُعيّر بهذه الآية ولا أقاتل، أحب إليّ من أن أُعيّر بهذه الآية التي يقول الله تعالى: ((وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً))[النساء:93] إلى آخرها .
    قال: فإن الله يقول: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ))[البقرة:193].
    قال ابن عمر: قد فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان الإسلام قليلاً, فكان الرجل يفتن في دينه, إما يقتلوه وإما يوثقوه حتى كثر الإسلام, فلم تكن فتنة ''
    4- وأما أبو بكرة رضي الله عنه، فإنه لم يقتصر على كفِّ اليد، بل نهى غيره، وأنكر عليه المشاركة في القتال، فقد روى الشيخان عن الحسن البصري أن الأحنف بن قيس أخبره أنه خرج بسلاحه يريد القتال في الفتنة- وكان ذلك يوم الجمل، وقصده القتال مع علي -رضي الله عنه- فلقيه أبو بكرة -رضي الله عنه- فصده عن ذلك، وقال: يا أحنف ارجع، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار}.
    وليس هذا صنيع الحائر المتشكك, بل هو موقف الواثق المستيقن, وسيأتي حديثه الآخر قريباً.
    5- وهناك من المعتزلين للفتنة من كان وضوح أمرها لديه بحيث إنه احتاط لنفسه من شرها بمجرد انفجارها، فهذا سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- لما قتل عثمان -رضي الله عنه- خرج إلى الربذة، وتزوج هناك امرأة، وولدت له أولاداً، فلم يزل بها، حتى قبل أن يموت بليال نزل المدينة .
    فقد تغرب -رضي الله عنه- حوالي أربعين سنة -منذ مقتل عثمان سنة 35 إلى وفاته سنة 74- ثم مات في دار الهجرة كرامة من الله له.
    6- وممن أحجم عن الفتنة، وحدَّث الناس بخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنها أبو هريرة رضي الله عنه، فقد حدَّث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو وأبو بكرة أنه قال: {ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد منها ملجأً أو معاذاً فليعذ به}.
    وهذا لفظ البخاري عن أبي هريرة، ولـمسلم عن أبي بكرة زيادة أوضح: {ألا فإذا نزلت- أو وقعت- فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه...} الحديث.
    ويتضح من هذه النصوص:
    أولاً: أن الصحابة الذين اعتزلوا الفتن يعتمدون على أصل شرعي ثابت بنصوص صريحة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعضها أوامر عينية في حق المخاطبين بها وبعضها لم نذكره.
    ثانياً: أن من كمال فقه الصحابة -رضي الله عنهم- التفريق بين صحة إمامة علي وبين وجوب القتال معه، بل صحة قتاله، إذ لا يلزم من كونه إماماً حقاً أن يكون قتاله لأهل الجمل وصفين حقاً بإطلاق على ما سنبينه.
    على أن هؤلاء ليسوا هم كل من اعتزل الفتنة، بل اعتزلها من هو أجل منهم مثل: سعد بن أبي وقاص، فإنه لم يكن على ظهر الأرض يوم صفين أفضل منه سوى علي وسعيد بن زيد، أحد العشرة، وهنالك من هو مثلهم، كـزيد بن ثابت، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن مغفل رضي الله عنهم.
    ومنهم أبو برزة الأسلمي -رضي الله عنه- الذي صدع أيام الفتنة بين ابن الزبير والأمويين والخوارج: [[إني احتسبت عند الله أني أصبحت ساخطاً على أحياء قريش]] الحديث، وذلك لأنه ''كان يرى الانعزال في الفتنة وترك الدخول في كل شيء من قتال المسلمين'' .
    وبالجملة: هذا هو مذهب أهل الحديث عامة، ومن تأمله ظهر له قوة دلائله النصية, وصدق نتائجه الواقعية، فقد صرح به إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل، وبنى عليه موقفه في رفض الخروج على الدولة العباسية.
    روى عنه الخلال أنه قال: '' ابن عمر وسعد ومن كفَّ عن تلك الفتنة، أليس هو عند بعض الناس أحمد! هذا علي لم يضبط الناس، فكيف اليوم والناس على هذا الحال... السيف لا يعجبني ''
    وقال أبو بكر المروزي: '' سمعت أبا عبد الله -وقد ذكر عنده عبد الله بن مغفل- فقال: لم يتلبس بشيء من الفتن! وذكر رجل آخر فقال: رحمه الله مات مستوراً قبل أن يبتلى بشيء من الدماء ''
    وممن صح النقل عنه من أهل الحديث سفيان الثوري -رحمه الله- وله كلمة عظيمة في هذا، قال: ''نأخذ بقول عمر -رضي الله عنه- في الجماعة، وبقول ابنه في الفرقة ''
    وكان -رحمه الله- يصرح قائلاً: '' لو أدركت علياً ما خرجت معه!! ''
    قال يحيى بن آدم: ''فذكرت قوله للحسن بن صالح فقال: قل له: يحكي هذا عنك؟ فقال سفيان: ناد به عني على المنار.''
    وعلى هذا المذهب كذلك الإمام البخاري صاحب الصحيح، فإن تراجم أبواب كتاب الفتن من صحيحه تنطق بذلك، وعلى منواله كتب مسلم وغيره من المصنفين في هذا الموضوع.
    وقد رجح هذا المذهب، وانتصر له شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في مواضع من كتبه، ومختصر أدلته على ذلك:
    1- النصوص الكثيرة التي استند إليها الممسكون عن الفتنة، ومنها ما سبق إيراده.
    2- ثناء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الحسن، لأن الله أصلح به ما بين المسلمين وحقنت الدماء، في حين أنه لم يثن على قتال أبيه لأهل الشام، بل غاية ما وصف به أنه أدنى منهم إلى الحق، بخلاف قتاله للخوارج، فقد أثنى عليه نصاً، كما أن علياً نفسه فرح واستبشر بقتال الخوارج، وتألم وتكدر بقتال أهل الشام.
    3- أن الممسكين عن الفتنة هم من أكابر الصحابة -رضوان الله عليهم- وأفاضلهم، وقد ذكرنا بعضهم قريباً.
    4- أن العبرة بالنتائج والعاقبة، ولا شك أن نتيجة الاقتتال كانت مؤلمة جداً في حين كانت السلامة في الإمساك، ولهذا ندم بعض من شارك، كما في البخاري عن شقيق بن سلمة حين سئل: '' هل شهدت صفين؟ قال: نعم، وبئست صفون ''.
    بل نقل شَيْخ الإِسْلامِ عن علي نفسه أنه قال: '' لله در مقام قامه سعد بن مالك وعبد الله بن عمر، إن كان براً إن أجره لعظيم، وإن كان إثماً إن خطأه ليسير'' .
    5- أنه لا حجة في استدلال المخالفين بقتال الفئة الباغية، وذلك أن الله تعالى إنما أمر بقتال الباغية، وسماها باغية إذا رفضت الصلح ولم يأمر بقتالها ابتداءً، وللصلح أبواب كثيرة، ولو بالتنازل عن بعض الحق أو كثير منه.
    6- أنه قد كان في الإمكان اتخاذ وسائل غير السيف لتهدئة الأحوال وجمع الكلمة، ومنها ما أشار به ابن عباس على علي بألا يعزل معاوية عن إمرة الشام، بل يبقيه في منصبه حتى يأخذ البيعة منه ومن أهل الشام، فإذا فعل ذلك وكانت المصلحة عزله، فإن رفض الطاعة يكون حينئذٍ باغياً ناكثاً.
    أما وهم لم يدخلوا في طاعة علي ابتداءً، فإن هذا من أقوى استدلالات من يرى صواب موقفهم، لا سيما والثابت أن معاوية رضي الله عنه لم ينازع علياً الخلافة، وإنما اشترط لدخوله في طاعته تسليم قتلة عثمان.
    * ولذلك تفصيل لا مجال له هنا، وحسبنا الإشارة والتنبيه.
    يبقى أن نرد قول من قال: إنه يلزم من هذا تشجيع المفسدين وقطاع الطرق .
    فنقول: إن قتال الفتنة- كما وقع بين الصحابة- شيء، وقتال قطاع الطرق والمفسدين شيء آخر، وقد قتل من الخوارج بـالنهروان قرابة أربعة آلاف فما تألم لهم أحد، وقتل كعب بن سور يوم الجمل فتألمت لذلك الطائفتان جميعاً، فكيف بـطلحة والزبير وعمار؟ فالمفسدون أقرب شيء إلى الخوارج، ولا يتحرج من قتالهم أحد، ولا يترتب عليه تمزيق صف المسلمين، بل فيه حفظ وحدتهم وأمنهم، وكذا دفع الصائل.
    وأما أن يكون المرء عبد الله المقتول ولا يكون عبد الله القاتل، فذلك مشروع في الفتنة بين المسلمين المختلفين اختلافاً اجتهادياً مصلحياً، والله أعلم.
    والحاصل: أن هذا المذهب أقوى من مذهب من يرى أن الصواب مطلقاً هو القتال مع علي، وبالأولى هو أقوى ممن يرى أن الصواب هو القتال مع من حاربه، وبذلك يتضح أنه أقوى المذاهب وأرجحها.
    على أن الذي يهمنا هنا بخصوصه هو بيان خطأ أو ضلال من نسب هؤلاء الصحابة -رضي الله عنهم- إلى الإرجاء، زاعماً أن الأمور اشتبهت عليهم فتبرءوا من الطائفتين كليهما، وأرجئوا الحكم عليهما بالإيمان- بالحق أو الباطل- إلى الله تعالى، فخلطوا بين هذا الموقف, وموقف بعض الخوارج, وموقف الشكاك الذين سبق الحديث عنهما.
    وما أحسن ما قاله شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في براءة الصحابة -رضي الله عنهم- من كل بدعة، قال: '' إن الصحابة -رضوان الله عليهم- خير قرون هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، وهم تلقوا الدين عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلا واسطة، ففهموا من مقاصده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعاينوا من أفعاله، وسمعوا منه شفاهاً ما لم يحصل لمن بعدهم.
    وهم قد فارقوا جميع أهل الأرض وعادوهم، وهجروا جميع الطوائف وأديانهم، وجاهدوهم بأموالهم وأنفسهم... ولهذا لم يطمع الشيطان أن ينال منهم من الإضلال والإغواء ممن بعدهم، ولم يكن منهم أحد من أهل البدع المشهورة، كـالخوارج والروافض والقدرية والمرجئة والجهمية، بل كل هؤلاء إنما حدثوا فيمن بعدهم '' .
  3. نماذج من آراء المستشرقين ومقلديهم في الموضوع

    نعرض هنا نماذج من آراء المستشرقين ومن اتبعهم من المحدثين والمعاصرين عن نشأة الإرجاء وفكره، آخذين في الاعتبار ما أشرنا إليه من أن المؤاخذ في الحقيقة هم هؤلاء المقلدون، فإنهم لو استخدموا عقولهم، وحاولوا الاستنباط بأنفسهم،لكان لهم العذر أو بعض العذر إذا أخطئوا, أما وهم ينقلون ويصرحون بالنقل عن المستشرقين، ويتجاهلون تماماً كلام علماء الإسلام الثقات وأئمة السنة المشهورين- هذا إن لم يطعنوا في آرائهم- فلا بد من بيان فساد منهجهم إحقاقاً للحق وعبرة لمن يدرس الفرق والعقيدة، كي لا يغتر بصنيعهم، ولهذا لم أر مناقشة كلام هؤلاء، مع أن بعضهم أساتذة متخصصون في علم الكلام، بل اقتصرت على عرض كلام المستشرقين لأنه الأصل!!
    والمستشرقون الذين تعرضوا للموضوع كثير، وسنكتفي بأهمهم وطرف من مقلديهم:
    1- فان فلوتن.
    2- يوليوس ويلهاوس.
    وهما من أخبث المستشرقين وأكثرهم أثراً في المقلدين، ونحن ننقل من كلامهما ما يغني بنفسه عن التعليق عليه:
    فأما فلوتن، فإن كتيبه السقيم يقوم على فكرة واحدة: هي أن الفتوحات الإسلامية كانت بغرض الاستعمار- على الطريقة الأوروبية- ومن هنا فسر نشأة الفرق بأنها انتقام من الشعوب المستعمرة ضد مستعمريها!!
    يقول: '' لم يكن الغرض من الفتوحات الإسلامية هو إدماج شعب في شعب، أو العمل على نشر دعوة دينية معينة، وإنما هو احتلال بقوة السيف!!''
    ويقول: وهكذا يصور لنا الاحتلال العربي بوجه عام شعباً يعيش على حساب شعب آخر.
    ثم يقول -بعنوان نشأة الفرق الإسلامية-: إن هذه الطوائف التي نشأت بين العرب في البلاد التي فتحوها، إنما كانت ترمي بادئ ذي بدء إلى غرض سياسي محض، رغم ظهورها بالمظهر الديني.
    وبعد أن ذكر -كعادة المستشرقين- أن الصراع على الخلافة هو الذي فرق المسلمين أحزاباً وشيعاً، أخذ في تفصيل هذه الأحزاب تفصيلاً، فقسمها على أربعة أحزاب:
    '' 1- حزب بني أمية: ومقره بلاد الشام، كان يرى أن أمراء هذا البيت أحق الناس بالخلافة.
    2- حزب أهل المدينة!!: وهم أنصار النبي الذين كانوا- لارتباطهم باليمانيين العرب- يعتبرون أن وصول بني أمية إلى الحكم إنما هو انتصار لأعدائهم القدامى من مشركي مكة!!
    3- حزب الشيعة: هم أنصار أهل البيت المتحمسون للدفاع عن حقوقهم في الخلافة، ولا سيما حق علي.
    4- حزب الخوارج: وهم الجمهوريون، وهم الذين كانوا يقولون باختيار الخلفاء من بين الأكفاء أياً كانت الطبقة التي ينتمون إليها!! ''
    وفي حديثه عن المرجئة خاصة يقول -ضمن حديثه عن الثورات التي قامت بها الشعوب المفتوحة على المستعمرين-: ''على أن بعضهم -أي الثوار- قد ذهب إلى أبعد من هذا -أي: المطالبة بالعدالة الاجتماعية بزعمه- فضمنوا عقيدة التوحيد معنى أخلاقياً ودينياً عميقاً ''.
    فما هو هذا المعنى الأخلاقي الذي لا تتضمنه عقيدة التوحيد، حتى أدخله فيها ثوار العجم من المرجئة؟
    يشرحه قائلاً: ''وقد عُزي إلى جهم بن صفوان -أحد رءوس المرجئة وكاتم السر للحارث بن سريج- هذه الكلمات: إن الإيمان عقد بالقلب، وإن أعلن الكفر بلسانه بلا تقية، وعبد الأوثان أو لزم اليهودية أو النصرانية في دار الإسلام، وعبد الصليب وأعلن التثليث في دار الإسلام ومات على ذلك، فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله عز وجل، ومن أهل الجنة '' .
    '' وكان من الطبيعي أن تدفع مثل هذه العقيدة أصحابها إلى احتقار الفرائض العملية للإسلام، ووضعهم واجبات المرء نحو من يحيط به من الناس فوق آراء الفروض التي جاء بها القرآن!! ''يعني أن العدالة والمساواة بين الناس أهم من الالتزام بأحكام الدين!!
    ثم يقول: '' ومن هذه الناحية كان الإرجاء في خراسان أشبه شيء بأثر عكسي أخلاقي لذلك الإسلام الشكلي؛ دين الحكومة العربية في ذلك الحين، تلك الحكومة التي أصرت على عدم المساواة بين جميع رعاياها في الدين، باتباعها النظام الجائر لجمع الضرائب وجباية المكوس '' .
    وأما يوليوس ويلهاوسون فيبدأ من النقطة نفسها، لكنه أكثر وقاحة حين ينسب ذلك للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقول -أخزاه الله-: '' كان محمد قد بدأ خطواته وهو مقتنع بأن دينه في جوهره نفس الدين اليهودي والنصراني، فكان يتوقع أن يلقاه اليهود في المدينة وقد فتحوا ذراعهم لاستقباله، غير أنه خاب فأله منهم خيبة مريرة، وبما أنهم لم يعتبروا اليهودية معادية للإسلام، بل عدوها مخالفة له، فإنه هو من جهته جعل الإسلام يخالف اليهودية، بل يخالف النصرانية!! فحدد الصيغ والشعائر التي يتميز بها دينه، بحيث انفكت عن التعبير عن النقاط التي تجمع بين الإسلام وإخوانه من الأديان، بل وسَّعت شقة الخلاف ''.
    وبعد أن ذكر أمثلة لذلك من الشعائر؛ كالجمعة والأذان وصيام عاشوراء ورمضان، قال: '' وبينما كان يؤسس الإسلام! على أسلوب يقضي على الطقوس اليهودية والنصرانية، كان يقرِّبه في الوقت نفسه من العروبة، فهو ما فتئ يعتبر نفسه الرسول المرسل للعرب خاصة!! فبدل القبلة، وأعلن أن مكة هي الحرم المقدس بدلاً من القدس، وشرع الحج إلى الكعبة، بل شرع تقبيل الحجر المقدس، وقبل مركز العبادة الوثنية في الإسلام، وأدخل الأعياد الوثنية الشعبية .... ''
    إلى أن يقول: '' وهكذا فصل الإسلام عن اليهودية، وبدل بحيث يصبح ديناً عربياً قومياً ''.
    ويذكر ما لا يطاق ذكره مما أسماه الإرهاب الذي أقامه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضد اليهودية، وأنه تعلل بحجج واهية ليمحو اليهود من الجزيرة، ويوِّرث أملاكهم ومزارعهم إلى المهاجرين- الذين كانوا بزعمه يعتمدون على الغزو -لأنهم حرسه الخاص... في كلام يكشف عن حقد يهودي أسود .
    ومن هذا المنطق يتحدث عن الإرجاء والمرجئة، فيجعلها إنسانية تطالب بالعدالة والمساواة للشعوب التي استعمرها الفاتحون المسلمون.
    ويذكر أن الإسلام انقسم بسبب هذه المسألة قسمين: محافظ، وهو الذي يحترم الجماعة ويؤيد الوضع القائم، وثائر، ومن الثائر: المرجئة والخوارج والشيعة.
    ويقول: '' والمرجئة هم بالحق أكبر أهمية، وكان لهم بقيادة الحارث بن سريج أثر ضخم في التاريخ!! ''
    ويقول: '' لو كان الحارث في الأزمنة الأولى ثورياً تقياً لعد خارجياً، لكنه لم يلزم نفسه بالشروط القاسية التي يبني عليها الخوارج عقيدتهم، إنما ابتدأ مرجئاً، وكاتبه جهم بن صفوان أشهر عالم من علماء تلك الفرقة، واشترك هو بنفسه في الأحاديث والمناقشات المتصلة بالمذهب.
    والإرجاء في الواقع سياسة في جمع الشمل، فالمسائل المختلف عليها استبعدت وتركت لحكم الله، لا سيما تلك المسألة الدائمة التي لا تحل، والتي تتصل بمن هو الإمام الحق الوحيد!! ومن ثم طرقت النقاط التي يمكن الوصول إلى اتفاق فيها على اختلاف نزعات المناوئين المتدينين، وكان ذلك احتجاجاً باسم حكم الدين على الطغيان الواقع، وباسم الشرع المقدس على سوء العدالة وعلى القوة ''.
    ويستمر في كلام خلاصته: أن المرجئة حركة ثورية ضد طغيان المستعمرين الفاتحين، ولهذا وَسَّعت مفهوم الإيمان ليقبل جميع الشعوب المضطهدة، لكي تكون يداً واحدة على الشعب الفاتح.
    وما قرره فان فلوتن ووويلهاوسن لخصه أحمد أمين وشريكاه، وهذبوه من الكلمات الصريحة، وقدموه على أنه فكرة سليمة محايدة، وقد نقلنا بعض كلامهم.
    وعن أحمد أمين نقل الشيخ أبو زهرة ، ونعمان القاضي، وألبير نصري نادر وعن أبي زهرة نقل كثير من الباحثين ثقة منهم في الشيخ.
    بل قل من كتب عن الحارث بن سريج إلا وينقل عن فلوتن، حتى أساتذة التاريخ!!
    3- ومنهم المستشرق اليهودي الحاقد جولد زيهر:
    الذي يتميز بمهارة فائقة في الدس والتزوير والافتراء، وهو يذهب إلى أن المرجئة من أهل السنة والجماعة، وتبعه على ذلك مقلدون كثير، ورأيه هذا يبدو فيه العمق وبعد الهدف الخبيث أكثر من صاحبيه.
    وعلى هذا سار فاروق عمر؛ الذي ينقل عنه -مقراً مؤيداً-: ''لم يكن مذهب أهل السنة والجماعة في بدايته إلا فكرة غامضة مرنة تتسع لكثير من الجماعات، وبعد المحنة التي عركت الأمة الإسلامية أثناء الحرب الأهلية الأولى وما جرى في أعقابها، بانت الخصائص الأولى لمذهب أهل السنة، حيث انقسم المسلمون إلى فئتين تمثل الأولى دين عثمان، وتمثل الثانية دين مروان ''
    والعجيب أن هذا المؤرخ العربي- مع إقراره بهذه الفكرة وبالقسمة المضحكة التي قسمها جولد زيهر- ينقل أيضاً وجهة نظر فلوتن في موضع آخر مؤيداً لها، ناسياً اختلاف نظرة كل من المستشرقين ومرماه البعيد، فيقول: ''ولعل أبيات ثابت قطنة تشير إلى أن المرجئة ستظهر رأيها بوضوح في أعمال الجور والتعسف والفساد، ويؤكد فان فلوتن أن المرجئة كانوا لا يتحرجون عن قتال أية حكومة تقر مثل تلك المظالم ''
    وعلى هذا الرأي سار المؤرخ البعثي شاكر مصطفى، فهو أيضاً يعتبر المرجئة ضمن الاتجاهات التي تشكل ما يسمى: السنة والجماعة، ويسميهم المرجئة أهل الاعتزال الأول، ويصف هذه الاتجاهات قائلاً:
    '' والصفة التي تجمع هؤلاء جميعاً بعضهم إلى بعض هي الوقوف بجانب الخلفاء الأمويين سياسياً في الأزمات، أو المهادنة لهم، والاحتفاظ بالرأي الديني في حيز الفكر، وعدم نقله إلى العمل الثوري '' .
    ولا يخفى تناقض هذا مع ما قرره الآخرون من أن المرجئة حركة ثورية لها أثر ضخم في التاريخ.
    وعليه أيضاً سار الدكتور نعمان القاضي، حيث قال: '' والمرجئة يشكلون كتلة المسلمين التي رضيت حكم بني أمية، مخالفين في ذلك الشيعة والخوارج، متـفقين إلى حد ما مع طائفة المحافظين من أهل السنة، وإن كانوا كما يرى فون كريمر قد ألانوا من شدة عقائد هؤلاء السنيين باعتقادهم أنه لا يخلد مسلم في النار ''
    وتطبيقاً لذلك ذكر الدكتور في الصفحة نفسها اسم سعيد بن جبير -رضي الله عنه- مع الحارث بن سريج، أي: ضمن المرجئة الذين ثاروا على بني أمية، هذا مع غض النظر عن أن الثورة تتنافى مع الرضا الذي ذكر آنفاً فهو تخليط مركب.
    ومن أهم النتائج المترتبة على هذا: قول هؤلاء بأن المرجئة انتهت بظهور دولة بني العباس، سواء أكان السبب هو أن العباسيين يعتبرونها موالية للأمويين، كما يرى أحمد أمين ونعمان القاضي، ولذلك دمروها، أم على الرأي الأخبث الذي ذهب إليه شاكر مصطفى وفاروق عمر وهو أن الدولة العباسية تبنت رسمياً مذهب أهل الحديث فانمحت هذه الفرقة فيهم، ويستدل أصحاب هذا الرأي بأن كتب الحديث إنما ألفت في العصر العباسي.
    4- ومنهم المستشرق فون كريمر:
    وعنه نقل الدكتور القاضي- كما سبق آنفاً- أن المرجئة ألانت من شدة عقيدة أهل السنة والجماعة، باعتقادهم أنه لا يخلد مسلم في النار، ونحن نسأل الدكتور: وما هو مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك؟!
    على أن لـكريمر رأياً يدعو للسخرية، نقلته عنه الكاتبة البعثية زاهية قدورة، وهو أن الثورات التي قامت في العراق ضد بني أمية -ومنها ثورة المرجئة- لم تكن ثورات دينية، بل لذلك علة أخرى لم يفطن لها من المؤرخين إلا هذا المستشرق العبقري!!
    تقول: ونحن نؤيد قول فون كريمر في أن هذه الثورات كانت ثورات العراقيين ضد السوريين، وذلك للعداء الموروث منذ الجاهلية بين العراق والشام، حيث كانت كل من دولة منهما حليفة لدولة معادية.
    5- ومنهم المستشرق نيكلسون:
    صاحب كتاب محاضرات في تاريخ الأدب العربي، الذي يعتمد عليه الكثيرون، ونظرته للموضوع مماثلة لـ فان فلوتن، حيث يعلل لنشأة المرجئة وثورتها -ثورة الحارث بن سريج- بقاعدة عامة هي: ''أن شعوب البلاد المفتوحة لم تدخل في الأخوة الإسلامية إلا نظرياً وظلت مضطهدة محتقرة بالنسبة للسلالة العربية '' .
    6- ومنهم المستشرق بروكلمان:
    الذي كان أكثر دهاءً وخبثاً حين تستر بالعمل العلمي البحت -فهرسة المخطوطات- لينسب الإرجاء إلى عقيدة أهل السنة والجماعة، فهو يقول: '' في أوائل الإسلام كان محور الجدل يدور أساساً حول المعصية أتبطل الإيمان أم -كما يقول المرجئة- لا تبطله .
    وفي تاريخ دمشق لـابن عساكر.. ذكر عقيدة للمرجئة كان يدرسها محمد بن عقاشة الكرماني.. في البصرة عن سفيان بن عيينة.. عن وكيع بن الجراح.. عن عبد الرزاق بن همام.. عن أمية بن عثمان. ''
    لقد خان بروكلمان الأمانة العلمية حين أقحم كلمة المرجئة في نص مأثور من مصدر متداول مشهور، وخرج عن مهمته التي هي الوراقة والفهرسة، لينصب من نفسه حكماً عقائدياً في الخلاف بين فرق لا تنتمي إلى دينه، ولكن الحقيقة أنه متى سنحت فرصة للدس على الإسلام، فكل مستشرق -أياً كان فنه- هو أستاذ متخصص!!
    على أن المؤلم -كما أشرنا- هو متابعة المقلدين من المنتسبين للإسلام، كما فعل المستشرق التركي فؤاد سيزكين الذي تابع بروكلمان على الخطأ نفسه.
    وبالرجوع لـتاريخ دمشق لن يجد القارئ هذه الكلمة، بل لا يحتاج الأمر لمراجعة، فهؤلاء المذكورون من جلة علماء السلف، ولو أن ابن عساكر نفسه نسبهم للإرجاء لكان هذا تهمة له هو.
    ويقع بروكلمان في خطأ آخر فادح، حين يقرر أن الإرجاء إنما نشأ في الشام، في حين بقيت العراق متمسكة بتعاليم القرآن الأصلية، ويرجع ذلك إلى أثر النصارى الذين كان لهم مكانة عظيمة عند حكام بني أمية!!
    والحقيقة أنه لم ينفرد بذلك، بل شاركه آخرون منهم جولد زيهر، وتبعهم مقلدون عرب في نسبة الإرجاء إلى بني أمية، وأصل هذا هو كتب الرافضة وبعض المعتزلة، وهو مخالف لما تواتر في أخبار المرجئة وأعلام رجالها من أنهم عراقيون -وسيأتي تفصيل ذلك- حتى لقد صرح بذلك الإمام الأوزاعي رحمه الله قائلا: ''وقد كان أهل الشام في غفلة عن هذه البدعة حتى قذفها إليهم بعض أهل العراق ممن دخل في تلك البدعة''
    على أنه لا يفوتنا أن نشير إلى أن بعض أتباع الأمويين كان لديهم إرجاء خاص بالملوك والخلفاء، وهو أن الله إذا ولى أحداً خلافة المسلمين كفر سيئاته بحسناته، والظاهر أن هذا رد فعل لغلو الشيعة ضدهم .
    7- وهناك مستشرق آخر هو نلّينو:
    التقط نصاً من الملطي في أصل تسمية المعتزلة، فخلط بين فرقة الاعتزال المعروفة، وبين الممسكين عن الفتنة المعتزلين لها من الصحابة وغيرهم، واعتبر كل من وقف على الحياد في الفتن معتزلياً، فدخلت المرجئة فيهم بهذا الاعتبار، وقد سبق تفصيل القول في أقسام الممسكين عن الفتنة.
    وهذا القول تابعه عبد الرحمن بدوي وعلي سامي النشار،
    والحديث عن المتأثرين بـالمستشرقين وإيراد اسم الدكتور النشار يقتضي منا أن نقول فيه خلاصة ما انتهى إليه الاطلاع الكثير على آرائه:
    وهو أنه على كثرة كتاباته وسعتها وجودة عباراته هو أكثر الباحثين المحدثين اضطراباً وتناقضاً وتخليطاً، وليس في إمكان الباحث أن يجد له رأياً مستقراً أو منهجاً مطرداً.
    وإنما ذكرته لأهمية كتبه عند كثير من الناس، ولأنه أستاذ لكثير من المتخصصين في الدراسات الكلامية في مصر وغيرها، ومن أجلى شنائعه أنه يكفر معاوية رضي الله عنه وأباه، ويعتمد على كتب الرافضة في النقل عن الراشدين وغيرهم، ويجعل أصل مذهب السلف في الصفات هو اليهود والصابئة وسيأتي بعض آرائه في مواضعها.