المادة    
وأما من جهة الشريعة فإن الرسل صلوات الله عليهم بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها؛ لا بتبديل الفطرة وتغييرها -وهذه قاعدة عظيمة- قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {كل مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء؛ هل تحسون فيها من جدعاء؟!}" البهيمة إذا نتجت بهيمة، تكون البهيمة المنتوجة جمعاء، ولا تكون جدعاء، حتى لو كان الأب والأم أجدعين، أو أحدهما أجدع،
يقول رحمه الله: "وقال الله تعالى: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ))[الروم:30] فجاءت الشريعة في العبادة والدعاء بما يوافق الفطرة؛ بخلاف ما عليه أهل الضلال من المشركين والصابئين المتفلسفة وغيرهم؛ فإنهم غيروا الفطرة في العلم والإرادة جميعاً، وخالفوا العقل والنقل؛ كما قد بسطناه في غير هذا الموضع".
غيروا الفطرة في العلم والإرادة، فالتوحيد نوعان: توحيد طلبي إرادي، والآخر علمي خبري؛ فالتوحيد العلمي الخبري هو توحيد الأسماء والصفات، وما أخبر الله تعالى به من أفعاله التي تقتضي معرفتها تحقيق توحيد الربوبية، فهؤلاء غيروا نوعي التوحيد: العلمي الخبري، والإرادي الطلبي، فغيروا بذلك الفطرة في العلم والإرادة؛ أما تغيير الإرادة فإنهم دعوا الناس إلى عبادة الأصنام، فلما فعلوا ذلك غيروا الإرادات؛ لأن الإرادات في الأصل تتجه إلى الله سبحانه، قال تعالى: (( أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ))[الصافات:86]؛ فهؤلاء غيروا إرادتهم وإرادة الناس، وجعلوها تتجه إلى ما عبد من دون الله، وأما تغيير العلم؛ فإن الله فطر نفوس الخلق على أنه سبحانه وتعالى فوق المخلوقات وأنه سميع بصير عليم، فجاء أولئك وقالوا: ليس هو فوق العرش، وليس له سمع ولا بصر ولا علم!! وهذا تغيير للفطرة من جهة العلم.
إذاً: هم غيروا نوعي التوحيد: التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي، والتوحيد الإرادي الطلبي القصدي.
يقول رحمه الله تعالى مقرراً أن الشريعة جاءت بما يوافق الفطرة: "وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فلا يبصقن قبل وجهه؛ فإن الله قبل وجهه، ولا عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملكاً، ولكن عن يساره أو تحت قدمه} وفي رواية: أنه أذن أن يبصق في ثوبه.
وفي حديث أبي رزين المشهور الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه: {ما من أحد إلا سيخلو به ربه}، فقال له أبو رزين: كيف يسعنا يا رسول الله وهو واحد ونحن جميع؟! فقال: {سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله! هذا القمر؛ آية من آيات الله؛ كلكم يراه مخلياً به} فالله أكبر.
ومن المعلوم أن من توجه إلى القمر وخاطبه -إذا قدر أن يخاطبه- لا يتوجه إليه إلا بوجهه مع كونه فوقه؛ فهو مستقبل له بوجهه مع كونه فوقه، ومن الممتنع في الفطرة أن يستدبره ويخاطبه مع قصده التام له، وإن كان ذلك ممكناً -أي أنه واقع عقلاً لكن لا يقع فطرة- وإنما يفعل ذلك من ليس مقصوده مخاطبته؛ كما يفعل من ليس مقصوده التوجه إلى شخص بخطاب؛ فيعرض عنه بوجهه، ويخاطب غيره؛ ليسمع هو الخطاب؛ فأما مع زوال المانع، فإنما يتوجه إليه؛ فكذلك العبد؛ إذا قام إلى الصلاة، فإنه يستقبل ربه وهو فوقه، فيدعوه من تلقائه؛ لا من يمينه ولا من شماله، ويدعوه من العلو لا من السفل؛ كما إذا قُدِّرَ أنه يخاطب القمر.
وقد ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: {لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم في الصلاة أو لا ترجع إليهم أبصارهم} واتفق العلماء على أن رفع المصلي بصره إلى السماء منهي عنه.
وروى أحمد عن محمد بن سيرين: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع بصره في الصلاة إلى السماء، حتى أنزل الله تعالى: ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ))[المؤمنون:1-2] فكان بصره صلى الله عليه وسلم لا يجاوز موضع سجوده}".
فالأصل هو التوجه إلى الله تعالى إلى العلو حتى في الصلاة، لكن لما أمرنا بخفض البصر، اتجهت أبصارنا إلى الأرض مع بقاء التوجه القلبي إلى العلو.
يقول: "فهذا مما جاءت به الشريعة تكميلاً للفطرة؛ لأن الداعي السائل الذي يؤمر بالخشوع، وهو الذل والسكوت -لعله السكون- لا يناسب حاله أن ينظر إلى ناحية من يدعوه ويسأله؛ بل يناسب حاله الإطراق وغض بصره أمامه".
إذا دخل إنسان على إنسان له هيبة ومكانة، وهو يريد أن يطلب منه شيئاً، فإنه يستقبله بوجهه، لكنه ينظر إلى الأسفل؛ مع أن الذي يسأله هذا السائل المطرق قد يكون فوق كرسي مرتفعاً عن مقام سائله، ومع ذلك لا يستطيع السائل أن يرفع إليه بصره، ولله المثل الأعلى.
يقول: "وليس نهي المصلي عن رفع بصره في الصلاة رداً على أهل الإثبات الذين يقولون: إنه على العرش؛ كما يظنه بعض جهال الجهمية -الذين أولوا صفات الله سبحانه وتعالى- فإن الجهمية عندهم لا فرق بين العرش وقعر البحر؛ فالجميع سواء" يقول صاحب المواقف - وكتاب المواقف فيه عقيدة الأشاعرة - يقول: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه... تعالى الله عن ذلك! فالذي يقول مثل هذا الكلام لا يحق له أن يعترض على استواء الله على عرشه بحديث النزول، أو بحديث: {فإن الله قبل وجهه} أو بحديث الإدلاء؛ لأن كلامه يخالف جميع هذه الأحاديث؛ فليس له وجه أن يستدل بأي حديث منها إطلاقاً؛ فهو قد خرج من المعقول والمنقول في الحقيقة.
يقول: "ولو كان كذلك، لم ينه عن رفع البصر إلى جهة، ويؤمر برده إلى أخرى؛ لأن هذه وهذه عند الجهمية سواء.
وأيضاً فلو كان الأمر كذلك، لكان النهي عن رفع البصر شاملاً لجميع أحوال العبد" لا في الصلاة فقط، بل يكون منهياً عنه في جميع أحوال العبد؛ لأن مقصودكم أن الله سبحانه وتعالى -كما تقولون- لا يتوجه إليه بأي جهة في جميع الأحوال، لا في الصلاة ولا في غيرها، "وقد قال تعالى: ((قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ))[البقرة:144] فليس العبد ينهى عن رفع بصره مطلقاً، وإنما نهي في الوقت الذي يؤمر فيه بالخشوع؛ لأن خفض البصر من تمام الخشوع؛ كما قال تعالى: ((خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ ))[القمر:7] وقال تعالى: ((وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ))[الشورى:45].
وأيضاً: فلو كان النهي عن رفع البصر إلى السماء وليس في السماء إله -كما يقولون: لا داخل العالم ولا خارج العالم- لكان لا فرق بين رفعه إلى السماء ورده إلى جميع الجهات، ولو كان مقصوده أن ينهى الناس أن يعتقدوا أن الله في السماء، أو يقصدوا بقلوبهم التوجه إلى العلو، لبين لهم ذلك كما بين لهم سائر الأحكام"، بل إنه صلى الله عليه وسلم بين للناس عكس مقصود الجهمية كما في حديث الجارية التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم: {أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: رسول الله، قال: أعتقها} . وفي رواية أخرى: {أعتقها فإنها مؤمنة}؛ فماذا قال المؤولون قالوا -كما قال محقق كتاب التمهيد لـابن عبد البر المطبوع مؤخراً- قال: (إن اعتقاد أن الله في السماء من عقيدة العرب في الجاهلية)، وهذا كذب وافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يقرها النبي صلى الله عليه وسلم على اعتقاد ما كان يعتقده العرب في الجاهلية؟! ويقول لمولاها عنها: {أعتقها فإنها مؤمنة}؟!!
يقول: "ولو كان مقصوده أن ينهى الناس أن يعتقدوا أن الله في السماء، أو يقصدوا بقلوبهم التوجه إلى العلو، لبين لهم ذلك كما بين لهم سائر الأحكام"، كأن يقال: أيها الناس! إياكم أن تعتقدوا أن الله في السماء! فإن هذا ما كان عليه الجاهليون!
"فكيف وليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ولا في قول سلف الأمة حرف واحد يذكر فيه أنه ليس الله فوق العرش، أو أنه ليس فوق السماء، أو أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا محايث له ولا مباين له، أو أنه لا يقصد العبد -إذا دعاه- العلو دون سائر الجهات؟!!" ثم كيف بذلك كله مع كثرة الآيات والأحاديث في الاستواء والعلو؟!!