المادة    
قال الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[مميت بلا مخافة، باعث بلا مشقة].
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[الموت صفة وجودية، خلافاً للفلاسفة ومن وافقهم، قال تعالى: ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً))[الملك:2] والعدم لا يوصف بكونه مخلوقاً.
وفي الحديث: {إنه يؤتى بالموت يوم القيامة عَلَى صورة كبش أملح، فيذبح بين الجنة والنَّار}وهو وإن كَانَ عرضاً، فالله تَعَالَى يقلبه عيناً، كما ورد في العمل الصالح: {أنه يأتي صاحبه في صورة الشاب الحسن، والعمل القبيح عَلَى أقبح صورة}.
وورد في القرآن: {أنه يأتي عَلَى صورة الشاب الشاحب اللون} الحديث، أي: قراءة القارئ.
وورد في الأعمال: {أنها توضع في الميزان}، والأعيان هي التي تقبل الوزن دون الأعراض، وورد في سورة البقرة وآل عمران: {أنهما يوم القيامة يظلان صاحبهما كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف}.
وفي الصحيح: {أن أعمال العباد تصعد إِلَى السماء}. وسيأتي الكلام عَلَى البعث والنشور إن شاء الله تعالى] إهـ.

الشرح:
قوله رَحِمَهُ اللهُ: [مميت بلا مخافة باعث بلا مشقة]، هذا استمرار للنعوت والصفات في حق الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فهو يحي ويميت سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من يشاء بلا مخافة، ولا يبالي متى أهلكه، وإنما جَاءَ في حق العبد الصالح المؤمن المتقرب إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أن الله تَعَالَى يقول كما في الحديث القدسي: {وما ترددت في شيء كترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، هو يكره الموت وأنا أكره مساءته} أما غير ذلك فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لا يبالي بأن يهلك أياً كَانَ من المخلوقين، وهو كذلك "باعث بلا مشقة" يبعثهم سبحانه تَعَالَى بلا مشقة.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: إن الموت صفة وجودية، خلافاً للفلاسفة ومن وافقهم من متكلمي الْمُسْلِمِينَ؛ فإنهم يقولون: الموت ليس شيئاً وجودياً، إنما هو شيء عدمي لا وجود له، فعدم الموت عندهم هو عدم الحياة.
لأن الله تَعَالَى يقول: ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)) [الملك:2] خلق الموت وخلق الحياة يعني: أن هذا أمر وجودي مخلوق؛ لأن العدم لا يوصف بكونه مخلوقاً، {أنه يؤتي بالموت يوم القيامة عَلَى صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنَّار} فيذبح الموت بهذا الشكل، حتى يستيقن كلٌ من هَؤُلاءِ وهَؤُلاءِ بالخلود، ويعلم أهل الجنة أنهم في نعيم ولا فناء ولا موت ولا خروج، ويعلم أهل النَّار أنهم في شقاء وعذاب أبدي؛ إلا من ورد في حقه الخروج من العصاة في شفاعة النبيين والصالحين، أو بتحنن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عليهم من بعد ذلك.
فالموت إذن أمر وجودي، ولهذا {يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون، فَيَقُولُ: هل تعرفون هذا الكبش؟ فيقولون: نعم.
هذا الموت وكلهم قد رآه، فيذبح.
ثُمَّ يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النَّار خلود فلا موت، ثُمَّ قرأ: ((وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)) [مريم:39]
}
هذه رواية الإمام البُخَارِيّ رَحِمَهُ اللهُ للحديث، وله روايات أخرى.
وقد يُقَالُ: ولكن الموت عرض فكيف يوصف بأنه جسم؟
والجوهر عندهم: ما قام بذاته، والعرض: ما قام بغيره، فالإِنسَانُ جوهر، واللون لا يقوم بذاته فهو عرض، وهكذا الحياة والموت.
الجواب: أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يقلب هذه الأعراض فتصير أعياناً، فمن ذلك: أن العمل الصالح يأتي صاحبه بصورة الشاب الحسن، والعمل القبيح يأتي في صورة الشاب القبيح، وذلك ضمن الحديث الطويل الذي رواه الإمام أَحْمَد في المسند في صفة موت المؤمن والكافر أو المنافق.
فمن صفات المؤمن: {أنه إذا وضع في قبره يأتيه شاب حسن فَيَقُولُ: من أنت؟ فوجهك الوجه يبشر بالخير، أو وجهك الوجه الحسن، ويستبشر بوجوده، فَيَقُولُ: أنا عملك الصالح، وأما المنافق أو الكافر -والعياذ بالله- فإنه يأتيه في أقبح صورة، فَيَقُولُ: من أنت؟ قبحك الله أو قاتلك الله فوجهك الوجه ينذر بالسوء، فَيَقُولُ: أنا عملك القبيح} فصور الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الأعمال التي كَانَ يعملها هَؤُلاءِ في صور محسوسة.

ومن ذلك أيضاً: ما ورد في القُرْآن أنه يأتي عَلَى صورة الشاب الشاحب اللون. ويقول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تعلموا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة} والبطلة: هم السحرة؛ ولذلك من يقرأ سورة البقرة فإنه يعصم -بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وينجو من شر السحرة وأعمالهم، ثُمَّ قال صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{تعلموا سورة البقرة وآل عمران، فإنهما الزهراوان يظلان صاحبهما يوم القيامة، كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف} و{إن القُرْآن يلقى صاحبه يوم القيامة حتى ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب، فيقول له: هل تعرفني؟
فَيَقُولُ: ما أعرفك.
فَيَقُولُ: أنا صاحبك الذي أسهرت ليلك وإن كل تاجر وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة ...إلى آخر الحديث}
، الشاهد في هذا، هو قوله: "إن القُرْآن يأتي في صوره الشاب الشاحب"، وفي الحديث الآخر: {إن البقرة وآل عمران يظلان صاحبهما كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف}.
فهذا من أعمال الإِنسَان التي توضع في الميزان، وتصعد إِلَى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مع أنها أعراض، لكي يُعرف أنه لا استدلال للجهمية القائلين بأن القُرْآن مخلوق بأمثال هَؤُلاءِ الآيات؛ لأن قرآتي مخلوقة وقرآتك مخلوقة، وأما القُرْآن الذي هو كلام الله فهو ليس بمخلوق، فالذي يأتي كل إنسان منا هو قرآته لا القُرْآن الذي هو كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا مما أبطل به الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى استدلال الجهمية الذين قالوا: إن القُرْآن مخلوق.

وهذه الأعمال توزن يوم القيامة في الموازين، كما ثبت ذلك وورد في أحاديث كثيرة صحيحة منها: حديث المفلس لما قال النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أتدرون من المفلس؟ قالوا: يا رَسُول الله! المفلس فينا من لا درهم له ولا دينار -هذا العرف المادي البشري- فَقَالَ النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لكن المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات كالجبال، أو قال بصلاة وصيام وجهاد وحج ثُمَّ يأتي وقد ظلم هذا وسرق هذا وأخذ مال هذا -حين تنصب الموازين- فيؤخذ من حسناته فيعطى هَؤُلاءِ الذين ظلمهم وضربهم من حسناته، فإذا نفذت أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، فيلقى في النَّار}.
وكما في {حديث الرجل الذي يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له يوم القيامة بعد أن توزن جميع أعماله، وإذا بحسناته طائشة، وإذا بسيئاته عظيمة وثقيلة، فتجعل سيئاته في تسعة وتسعين سجلاً، فيقول له الرب -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (هل بقي لك من شيء)، فَيَقُولُ: لا يا رب ما بقي شيء، فيقول الله: (ولكن لا يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد، بقي لك هذه البطاقة)، فيرى بطاقة مكتوب فيها: "لا إله إلا الله" فَيَقُولُ: يا رب! وما تصنع هذه البطاقة بتسعة وتسعين سجلاً؟! فتوضع البطاقة فترجح عَلَى هذه السجلات جميعاً} التوحيد يرجح بجميع السجلات، فهذا كانت عنده حقيقة التوحيد، ولكنه كَانَ يرتكب ويفعل من الآثام ما الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- به عليم، وقد أحصاه عليه وعده، ثُمَّ أراه إياه، ثُمَّ تجاوز عليه بفضل تحقيقه للتوحيد.

وسنتحدث عن الميزان في آخر الكتاب -إن شاء الله- ضمن الحديث عن البعث، وهناك نبين الرد عَلَى مثل هذه الشبه، وهي قول الفلاسفة والمعتزلة ومن وافقهم بأن الأعمال أعراض، والأعراض لا توزن، وانكروا لذلك الميزان، مع أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: ((فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْناً)) [الكهف:105].