هناك قضية لا بد أن ننبه إليها وهي: أن الأمة الآن تعيش نهضة وصحوة عظيمة، ومن غير الطبيعي أن نتوقع أنها تجمع على رأي شخص واحد، أو جماعة واحدة أو فئة واحدة.
أنا أتعجب من بعض الإخوة عندما يضخم جانب الاختلاف، ويقول: الدعوة اختلفت وتشتت!!
يا أخي الكريم: عندما يكثر العدد دائماً وتتسع المجالات تكثر الاجتهادات وتتنوع الآراء أيضاً، فلماذا لا نتقبل هذا بصدر رحب؟ لماذا لا نفرح ونقول: الحمد لله على هذه الصحوة وعلى انتشارها؟ أما الاتفاق فليس شرطاً أن نتفق في كل شيء، ولكن نحمد الله أننا متفقون على الأمور المهمة جداً جداً.
وأنا أضرب أمثلة بالجهاد؛ لأنه أخف الأعمال في هذا الشأن، ولأن البعض يظن أنه لا يقبل الاختلاف، نقول: الاختلاف حتى في التعامل مع العدو، يمكن أن يكون سائغاً ومقبولاً ولا حرج فيه، والشواهد في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم على هذا كثيرة.
مثال: عندما نصر الله تبارك وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر يوم الفرقان، وجيء بزعماء الشرك مصفدين أمام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يستشيرهم: {ماذا نفعل في هؤلاء؟} القضية حاسمة ولكن تخيلوا أول مرة بعد الأذى وما حصل في مكة، وبعد الهجرة والإخراج وغير ذلك، وهؤلاء الآن أمام أعين الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فالذي حدث كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والحاكم وغيرهما، أن خرجت ثلاثة آراء في وقت واحد، قال أبو بكر: { يا رسول الله، أهلك وقومك وعشيرتك ولعل الله أن يهديهم فيسلموا ويتوبوا }.
وقال عمر رضي الله تعالى عنه: { أخرجوك وآذوك وكذا .. فمرني فلأضرب أعناقهم }.
وقال عبد الله بن رواحة الأنصاري رضي الله تعالى عنه: { يا رسول الله! ما أكثر الحطب في هذا الوادي فمرنا فلنشعله ناراً فلنحرقهم جميعاً }.
ثلاثة آراء، كل واحد أتى برأي، ليكن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرهم، ولكن الشيء العظيم الذي قد لا نتفطن له: {إن الله تبارك وتعالى يلين قلوب قوم حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب قوم حتى تكون أشد من الحجارة} كل هذه قاعدة، الله تبارك وتعالى هكذا يشدد ويلين كما يشاء، وبعضكم يشدد وبعضكم يلين، ثم قال: {مثلك يا أبا بكر ومثلك يا عمر ...} الشاهد هو أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أنه آخر الأنبياء وخاتم الأنبياء، وأنه من أولي العزم من الرسل، وهو أفضلهم صلى الله عليه وسلم -أولو العزم من الرسل غير النبي صلى الله عليه وسلم هم أربعة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى- انظروا كيف يأتي هذا الموقف، يأتي وإذا بنا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم واقف أمامهم، كل من الصحابيين الكريمين أبي بكر وعمر له أسوة برسولين من أولي العزم، ليس أي نبيين، وإنما من أولي العزم أنفسهم، وهذا معناه أن المسألة مهما اختلفت فإنها ناشئة عن عزم ليس عن تراخ في الدين ولا تهاون فيه ولا ضعف.
فأما أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقد مثل له النبي صلى الله عليه وسلم بإبراهيم عليه السلام: ((ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً))[النحل:123] .. { مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم عليه السلام: ((فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ))[إبراهيم:36] } هكذا نظر وقال: ولعل الله يهديهم يا رسول الله! ولعلهم يتوبون، وكذلك عيسى عليه السلام: ((إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))[المائدة:118].
إذاً.. الله سبحانه وتعالى جعل قدوة للصديق في إبراهيم عليه السلام، ثم { مثلك يا عمر ...} ويأتي أيضاً مثال من أولي العزم من الرسل مثل نوح عليه السلام، ومثل موسى عليه السلام، كل منهما أراد استئصال قومه، قال نوح عليه السلام: ((وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً))[نوح:26]، وقال موسى عليه السلام: ((رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ))[يونس:88] سبحان الله! ويخرج الجميع كلهم برضا، ثم يختار النبي صلى الله عليه وسلم رأي أبي بكر، ولم يحصل أي تهمة، ولا أنت مقصر، ولا أنت خائن، ولا أنت تهاونت، ولا قال لهذا: أنت متشدد أو إرهابي، سبحان الله!
هكذا تتعدد الآراء وتتنوع، واختلف الشيخان في شأن أهل الردة ثم اتفقوا والحمد لله، ثم بعدما حصل لهم ما حصل اختلفوا كيف يعاقبون، حتى إن عمر رضي الله تعالى عنه غير ورد السبي بعد وفاة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وهو أمر مشهور في فقه عمر رضي الله تعالى عنه واجتهاده، واختلفوا حتى في القسمة، فجعلها أبو بكر رضي الله تعالى عنه لكل المسلمين على سواء، وعمر رضي الله تعالى عنه قال: [[والله لا أجعل من قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كمن قاتله]] فقدم المهاجرين والسابقين وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وأخر آخرين، وهكذا حسب الفضل.
هذا، وهما أفضل رجلين في الأمة، ولا يعاب على هذا ولا على هذا، والقصص كثيرة في هذا: لما ذهب خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه لجهينة وهم حي من العرب -والحديث في الصحيح- قالوا: صبأنا صبأنا ولم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فقتلهم خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد} ودفع الديات وتبرأ مما فعل خالد، لكن لم يتبرأ من خالد، ولم يعزل خالداً، ولم يتهم خالداً، بل بقي هو سيف الله.
انظروا! المشكلة نعالجها والخطأ نتداركه؛ لكن من غير اتهام ولا طعن ولا نبذ، بل بالعكس: الإسلام يحتاج هؤلاء، يحتاج كل داعية وكل خطيب، ولو رأينا أنه أخطأ أو لان أو داهن أو تشدد أو فرط .. لا تدري قد تكون في يومٍ من الأيام أحوج إليه، فلماذا لا يكون بيننا إعذار بعضنا لبعض والتآخي فيما بيننا، وحمل مواقف بعضنا على أن الأصل فيها إن شاء الله هو الخير وإرادة الخير لهذا الدين، والأمثلة إن شاء الله كثيرة.