مراعاة المصالح والمفاسد
هناك -أيها الإخوة الكرام- أمور مهمة تتعلق بحال المواجهة والمقاومة لهذا العدو الخبيث الماكر، المتسلط المتكبر المتكالب المتألب علينا من كل مكان، إنه لا بد في مواجهة الأعداء -كما أنه لابد منه في الدعوة إلى الله في كل أمرٍ من أمورنا- لا بد من مراعاة المصالح والمفاسد، ولا نعني بها الهوى أو مصلحة الإنسان الدنيوية والمادية، إنما نعني المصلحة الدينية الشرعية، لابد من اعتبار المصالح والمفاسد حتى نعرف متى نتقدم ومتى نتأخر، وماذا نفعل وماذا لا نفعل، لا سيما وأننا في وقت حرج وعصيب، فلو أن فئة من الفئات افتاتت أو عملت أمراً من الأمور، ربما كان أثره أسوأ ما يكون على الأمة كلها .
والأدلة على هذا لا تخفى على مثلكم، وأنا أشير إشارات عجلة في هذا: فمثلاً: عندما نعلم أن الله تبارك وتعالى يقول: ((وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ))[الأنعام:108] فمن ديننا وعقيدتنا البراءة من الأصنام وسب الأصنام والأشياء التي تعبد من دون الله، وهذا أمر عادي جداً من بديهيات الدين، ومع ذلك إذا كان هذا يؤدي إلى أن المشركين يسبون الله عز وجل فإننا لا نفعل، هذا أصل عظيم في هذا الباب، وكذلك فعله صلى الله عليه وسلم عندما قال: {لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة ولجعلت لها بابين} هناك مصلحة عظيمة واضحة أن تعاد الكعبة؛ لأن قريشاً قصرت في البناء حين قَصُرت بهم النفقة، فأن تعاد على بناء إبراهيم عليه السلام، وهي بنيت على هذه الملة هذا أمر عظيم ومصلحة واضحة، لكن لماذا تركت؟
لأن الناس سوف يقولون: نقض محمد .. غيَّر محمد .. حداثة عهدهم بالجاهلية، فقد لا يفهم البعض حقيقة ذلك، ويجد المرجفون مجالاً للإرجاف والإفساد.
هكذا، حتى الجهاد في سبيل الله: ما الذي حدث أثناء صلح الحديبية؟
أنزل الله سبحانه وتعالى آيات عظيمة: ((إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً))[الفتح:1] وذكر فيها من العبر والحكم والأسرار الشيء العجيب جداً، الذي ما كان الصحابة رضوان الله عليهم يفطنون إليه عندما قالوا: { كيف نرضى الدنية في ديننا يا رسول الله؟ }.
ومن ذلك: أنه سبحانه وتعالى أجَّل دخول المسلمين واقتحامهم المشركين عليها لحكمة عظيمة: ((وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً))[الفتح:25] سبحان الله! كم عدد هؤلاء الذين لولاهم لاقتحم المسلمون، ولكان العذاب نزل بالمشركين، جاء في بعض الروايات أنهم أقل من عشرة، وفي رواية أخرى: أكثر من العشرة بقليل، وأكثرهم من النساء، فسبحان الله، حكمة من الله سبحانه وتعالى.
إذاً.. هناك أمور لله سبحانه وتعالى حكمة فيها، فعندما نكون حتى في حال الجهاد قد لا يهاجم البلد، أو قد لا يدخل أو قد لا يحارب الكافر والمقدرة موجودة، والتحرك والتشوق موجود لوجود مصلحة (عدم التزيل) وجود أناس من المؤمنين بينهم، وهذا معناه أنه في كل خطوة نخطوها يجب أن نفكر ونزن الأمور، وليست فقط أننا في الدعوة فلنقل ما نشاء، وإن كنا في الجهاد فلنرمي كما نشاء، وفي كل أمر نندفع كما نشاء، لا يصلح الاندفاع أبداً لا في الأمر بالمعروف ولا في الدعوة ولا في التعليم، ولا في الجهاد، ولا في أي باب من أبواب الدين، لا يصلح إلا الحكمة والتعقل والاتزان، وأخذ الأمور من أبوابها كما علمنا الله، وكما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذه من الأمور المهمة جداً، ولذلك فإننا عندما نركز ونكرر المعنى العظيم، وهو: أن العقيدة عندنا هي الأهم .. هي قبل الأرض .. هي قبل القتل .. هي كل شيء، لماذا؟
لأن كل عملنا هو من أجلها، فنحن ندعو إلى الله لكي يؤمن هؤلاء الناس، من أجل أن نبلغ رسالة الله على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الجهاد: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ))[الأنفال:39] فالجهاد هو من أجل الدين، ومن أجل هذه العقيدة.
كذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو للقضاء على أكبر منكر وهو الشرك، وإقامة أهم معروف وهو التوحيد.
إذاً.. العقيدة عندنا تقدم على كل شيء؛ ولذلك حتى في المعركة عندما يأتي الرجل ويشهد أن لا إله إلا الله والسيف فوق رأسه نقبل منه، والنبي صلى الله عليه وسلم أنكر إنكاراً شديداً على الصحابي، قال: {أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟! أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟! فماذا تفعل بلا إله إلا الله يوم القيامة}.
نحن هدفنا الدعوة، حتى لو قالها تعوذاً، مثل هذا الحديث ظاهر الأمر فيه أنه قالها تعوذاً من السيف، ومع ذلك نحن هدفنا الإيمان وليس الانتقام أو التشفي، أن يسلم الإنسان.. أن يؤمن، لو أسلم اليهود والنصارى رضينا، لو أسلم شارون .. لو أسلم بوش لقلنا: حياك الله، وادخل في دين الله، والإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها.
نحن لسنا أصحاب هوى .. لسنا أصحاب عنصرية، ولا مصالح مادية .. نحن حملة عقيدة وإيمان، وهدفنا أن يهتدي هؤلاء، وخير لنا وأحب إلى قلوبنا أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
ولذلك لما جاء جورجى في معركة اليرموك، فقال: أين خالد ؟ فلما قابله قال: من أنت؟ قال: جورجى! فأسلم وصلى به خالد في أثناء المعركة، وأصبح من المسلمين، وفرح المسلمون بذلك فرحاً شديداً، وهو من قادة الروم الكبار، هذا الذي يهمنا، ولكان يمكن أن يقال: قتل، كما قتل رستم وماهان وغيرهم قادة كثير قتلوا وأسروا، لكن أحب إلينا أن يهتدي هؤلاء ويسلموا.
وما هو الذي يتبع هذا إذا كان هذا هدفنا؟ هل ينفع جهاد بغير علم؟
هل ينفع جهاد من أناس لا يعرفون الدعوة الصحيحة، ولا يدرون كيف يُعلم الناس الإسلام؟
لا يصلح!
إذاً.. أهمية العلم للجهاد وأهمية العلم للدعوة، كما هو مهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو مهم لكل شيء.
فلا بد إذاً من تأسيس العلم الصحيح بهذا الدين، وأن يكون الهدف واضحاً في كل أمر نعمله، وهو أن يهتدي هؤلاء الناس وأن ندعوهم إلى الله تبارك وتعالى، نحن لا ننتصر عليهم إلا بالإيمان، ولا نريد منهم إلا الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وما عدا ذلك مما يورثنا الله من أرضهم وأموالهم وما يعطينا فإنه تبع، والله سبحانه وتعالى يورث الأرض من يشاء؛ لأنه كتب ذلك: ((وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ))[الأنبياء:105] فهذا من فضله تبارك وتعالى، ولا شك أن فتح مكة كان نصراً عظيماً جداً، لكن أيضاً لا شك أنه صلى الله عليه وسلم خرج منها ليبحث عن دار هجرة، فلما وجد دار هجرة خرج وتركها وهي أحب أرض الله إليه.
إذاً.. القضية ليست قضية الأرض، ولا الوطن ولا البلد، لا بغداد ولا غير بغداد ولا أي مكان، القضية قضية الدعوة، حيثما قامت الدعوة، وحيثما نجحت الدعوة فهذا هو الذي نحرص عليه.
ربما -ونسأل الله أن يجعل الأمور خيراً- لو قضي على هذا النظام الذي في العراق مثلاً وانتهت الأمور كما يريد هؤلاء، ولكن نجحت الدعوة ودخلت إلى هذه الأرض، وهي أرض دعوة وأرض علم، لكان ذلك خيراً عظيماً جداً.
ولا ندري ما الخير فيه أبداً، وها هي أرض العراق أرض دعوة.
سبحان الله! منذ أن خرج العلم والنور من بلاد الحرمين لم يكن أقوى منه في أي بلد من العراق أبداً، لم يشهد أي بلد من بلدان العالم الإسلامي بعد الحرمين أقوى في العلم والدين والجهاد من العراق، انظروا إلى روايات أهل البصرة وحدهم، أو روايات أهل الكوفة وحدهم أكثر من مجموع رواية أهل الشام، وربما لو جمعت الشام ومصر وغيرها لم تجد مثل الكوفة وحدها في العلم، والأدباء والمؤرخين والشعراء والأئمة والعباد والزهاد، فضلاً عن كل الجيوش التي فتحت شرق العالم الإسلامي وشماله انطلقت أصلاً من العراق، فهو موقع عظيم جداً، ونسأل الله أن يعود كذلك.
لكن المقصود أن في كل حركتنا وأمرنا أن نبحث عن الدعوة.. انتصار الدعوة.. تحقيق الإيمان.. دخول الناس في هذا الدين.
فالله يقلب ويغير هذه الأوضاع كما يشاء، ونحن لا نريد إلا أن يسيطر الإسلام، ولا نريد إلا أن ينتصر إخواننا المسلمون، ولا نريد لهؤلاء عياذاً بالله أن يغلبوا، لكن سنقول: لو قدر الله ولم تكن النتيجة إلا كذلك، وفتح البلد للدعوة، فهذا فتح سوف يعوض ذلك، أو قد ينسي ألم ما حدث من قتل أو تدمير أو هزيمة، إذا كانت عقيدته دخول الدين وانتشار الدعوة فهذا نصر عظيم، ونرجو أن نهيئ أنفسنا لذلك بإذن الله.
ونحن نستطيع أن نقدم الشيء الكثير بإذن الله، المقصود هو أن يكون لدينا سعة الأفق والاستعداد لهذا بحول الله تبارك وتعالى وقوته.