المادة    
يقول ابن القيم رحمه الله: "وكان محمد بن أسلم الطوسي الإمام المتفق على إمامته مع رتبته أتبع الناس للسنة في زمانه"، حتى قال: [[ما بلغني سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عملت بها]]".
بهذا رفع الله هؤلاء الأئمة؛ فأين نحن من هؤلاء القوم؟! "ما بلغني سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عملت بها..!".
هؤلاء جعلوا العمر والحياة والتفكير والهم والوقت: لله واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو شغلتهم البدع -وهم أبعد الناس عن ذلك- لضلوا عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولو شغلهم الترف والتوسع في الدنيا، وجمع المال وتشييد القصور والعمارات والمضاربات، ما فعلوا ذلك؛ لكنهم كانوا على الجادة الوسطى.
يقول: "ولقد حرصت على أن أطوف بالبيت راكباً فما مكنت من ذلك"؛ وقد حرص على ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعير يستلم الركن بمحجن؛ فـمحمد بن أسلم رضي الله تعالى عنه يريد أن يطبق هذه السنة؛ لكنه لم يستطع، والشيء إذا لم يستطعه الإنسان لا يؤاخذ عليه.
ولا يفهم من هذا أن الإنسان عليه أن يطوف راكباً وأنه إن لم يفعل ذلك فقد خالف السنة؛ فإن هناك أموراً فعلها النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الاتفاق؛ فهي ليست مسنونة، ومنها أنه طاف صلى الله عليه وسلم راكباً، فمن فعل ذلك، فإنه لا يلام ولا يعاتب ولا تثريب عليه؛ لأنه فعل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ليست السنة أن يطوف الإنسان راكباً؛ لكن هذا الرجل -محمد بن أسلم الطوسي- فعل السنن التي يسن اتباعها، ثم انتقل إلى مرتبة أخرى، وهي فعل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مما هو مباح أو مما هو ليس بمسنون؛ فهو يريد أن يفعل ذلك حباً في التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القيم رحمه الله: "فسئُل بعض أهل العلم في زمانه عن السواد الأعظم الذين جاء فيهم الحديث: {إذا اختلف الناس فعليكم بالسواد الأعظم}" مبلغ علمي أن هذا الحديث الذي ذكره ابن القيم هنا لم يثبت بهذا اللفظ؛ لكنهم فسروا السواد الأعظم بالجماعة؛ فيكون المعنى على ذلك: إذا اختلف الناس فعليكم بما كانت عليه الجماعة؛ وهذا المعنى صحيح، والكلام الآتي يوضح ذلك.
قال: "سئل بعض أهل العلم عن السواد الأعظم، فقال: محمد بن أسلم الطوسي هو السواد الأعظم" السؤال: من هو السواد الأعظم الذي نتبعه في هذا الزمن؟ والمسئول عن ذلك هو عبد الله بن المبارك وقيل غيره.
وكلمة السواد الأعظم -كما قلنا- هي من مرادفات كلمة الجماعة، ومن معاني السواد الأعظم أيضاً: الكثرة الكاثرة في أي زمان ومكان، وقد يكون السواد الأعظم بمعنى الكثرة التي كانت في الزمن الأول، في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فالسواد الأعظم بهذا المعنى هم أيضاً الجماعة الذين ورد الأمر باتباعهم في حديث آخر، فيكون ذلك مطابقاً للمعنى الأول الذي ذكرناه للسواد الأعظم.
قال:" محمد بن أسلم الطوسي هو السواد الأعظم".
عجيب..! كيف يكون إنسان واحد هو السواد الأعظم؟!
لكن على المعنى الذي قررناه لا غرابة في ذلك.
قال ابن القيم رحمه الله: "وصدق والله...! فإن العصر إذا كان فيه عارف بالسنة داعٍ إليها فهو الحجة، وهو الإجماع، وهو السواد الأعظم، وهو سبيل المؤمنين التي من فارقها واتبع سواها، ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً".
يقتبس رحمه كلامه من قوله تعالى: ((وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا))[النساء:115] وهذه الآية يحتج بها العلماء على الإجماع -وهي من أقوى الأدلة على الإجماع- وأن المؤمنين الذين هم أهل للإجماع إذا أجمعوا على شيء لا تجوز مخالفتهم.
لكن بعض أهل البدع يفهمون هذه الآية ويفهمون كلمة الحجة وكلمة الإجماع وكلمة الجماعة وكلمة السواد الأعظم على غير وجهها، فيقولون: كيف تتركون الإجماع فما نحن عليه من التأويل قد أجمع عليه المسلمون؟!
وبعض أهل البدع يعبدون القبور، وحين تحاجهم تجد أن من أعظم ما يحتجون به الإجماع؛ يقولون: انظروا إلى بلاد المسلمين شرقاً وغرباً يعظمون القبور ويطوفون بالقبور، ويستغيثون بها بلا نكير، فهناك إجماع من السواد الأعظم من المسلمين على ذلك؛ فلماذا -إذاً- تنكرون أنتم؟!
وقد يقول دعاة السفور كذلك: إن السواد الأعظم من المسلمين لا يرون في تبرج المرأة وخروجها ومخالطتها الرجال أي شيء -وهذا هو حال أكثر الأمة الإسلامية- فالذين يريدون أن تغطي المرأة وجهها وأن تبقى في البيت ولا تخرج إلا بالقيود الشرعية؛ هم -إذاً- أهل غلو؛ هؤلاء مخالفون للسواد الأعظم وللإجماع وللجماعة.
وكثير من الدعاوى هكذا.
وفي كلام ابن القيم رحمه الله الذي ذكرناه آنفاً رد على كل هذه الدعاوى؛ فإنه قال: "العصر إذا كان فيه عارف بالسنة -ولو رجلاً واحداً- داعٍ إليها"، رجل عالم بالسنة يدعو إليها "فهو الحجة"، فالحجة ليست في الكثرة، بل في هذا الرجل وإن كان وحده.
"وهو الإجماع" كيف يكون هو الإجماع وهو رجل واحد؟! لأنه الموافق للإجماع السابق.
"وهو السواد الأعظم" كما قيل في محمد بن أسلم الطوسي رحمه الله؛ فكما أنه هو السواد الأعظم فكذلك هذا الرجل وليست الكثرة الأخرى.
"وهو سبيل المؤمنين" سبيل المؤمنين هو هذا الذي يدعو إلى السنة وإن كان وحده "التي من فارقها واتبع سواها ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً".
فكل من ترك السنة، فإن هذه الآية تنطبق عليه، وهي واردة في حقه.
ومن كان على الحق -وإن كان وحده- فهو الذي من فارقه حلت به هذه العقوبة، فالعبرة ليست بالكثرة، وإنما العبرة باتباع الحق.