وقد ختم الله تعالى البشرى للمؤمنين في هذه الآيات بقوله تعالى: ((
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ... ))[النساء:125] الآية، أخرج
ابن أبي حاتم عن
ابن عباس قال: [
قال أهل الإسلام: لا دين إلا الإسلام، كتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا خير النبيين، وديننا خير الأديان. فقال الله تعالى: (( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ))[النساء:125] ]. وقبل ذلك قال الله تعالى: ((
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى ))[النساء:124] ولم يطلق القول، بل قيده فقال: (وَهُوَ مُؤْمِنٌ)، وقال بعده ذلك: ((
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ))[النساء:125].فانظر كيف قيد الأولى بقوله: (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) وقيد التي بعدها بقوله: (وَهُوَ مُحْسِنٌ) نفياً لذلك اللبس الذي قد يتبادر، وهو أن الإنسان بمجرد أن يكون من أهل الإسلام أو أهل الإيمان له أن يفعل ما يشاء وينال هذا الفضل وهذه الدرجة.وذكر عن
مسروق أنه لما احتج المؤمنون وأهل الكتاب فأنزل الله: ((
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123] انفلج المسلمون عليهم بهذه الآية: ((
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ... ))[النساء:124] أي: ظهروا بالحجة على أهل الكتاب وغلبوهم بهذه الآية.وقال
السدي في قوله: ((
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ))[النساء:124] قال: أبى أن يقبل الإيمان إلا بالعمل الصالح.قال رحمه الله تعالى: (وأخرج
ابن منذر و
ابن أبي حاتم عن
ابن عباس [
أن ابن عمر لقيه فسأله عن هذه الآية: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ) قال: الفرائض ])، والمقصود بهذا أهمية الفرائض، لا أن الإنسان لا يعمل إلا الفرائض، بل كما جاء في الحديث القدسي: (
وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ) فلو أن الله سبحانه وتعالى يعلم شيئاً أقرب إليه وأفضل من الفرائض لجعله هو الفرائض وجعل غيره نوافل، وهذا مما يجب أن يتفطن له ويتنبه له المؤمن، فإنك تريد رضا الله وتريد القرب من الله وتريد أن تكون ممن تنطبق عليهم هذه الآية: ((
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ))[النساء:124]، فعليك أن تؤدي الفرائض وأن تحافظ أشد المحافظة على الفرائض، ثم تكمل ذلك بما شئت من النوافل.وعن
عكرمة في قوله: ((
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ))[النساء:124] قال: قد يعمل اليهودي والنصراني والمشرك الخير فلا ينفعهم إلا ثوابه في الدنيا. لأنه تعالى قال: (وهو مؤمن)، فالله تعالى لا يظلم أحداً، لكن فرق بين من يثيبه على عمل الخير في الدنيا وبين من يدخر له ذلك إلى يوم القيامة مع عاجل البشرى التي يعطيها الله لعباده المؤمنين.فالمؤمن تعجل له عقوبته في الدنيا من الهم والغم والنصب واللأواء وغير ذلك، ويدخر أجره كاملاً عند الله تعالى في الآخرة، أما الكافر والمنافق فبالعكس، فما يعمله من خير يعطى أجره في الدنيا، كمن يحسن منهم ويتصدق، فإنه يأخذ أجره في الدنيا، ويقال عنه: محسن، ويقال عنه: منفق وجواد، وهذا ما يريدون، وأما في الآخرة فكما قال تعالى: ((
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ))[هود:16] والعياذ بالله، فلا ينفعهم ذلك في شيء عند الله عز وجل.قال رحمه الله تعالى: (وأخرج
ابن أبي حاتم عن
قتادة في قوله: ((
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ))[النساء:124] قال: إنما يتقبل الله من العمل ما كان في الإيمان).قال تعالى: ((
فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ))[النساء:124]، قال
الكلبي : القطمير: القشرة التي تكون على النواة، والفتيل الذي يكون في بطنها، والنقير النقطة البيضاء التي في وسط النواة.وكلها أشياء لا يأبه بها الناس، فالإنسان يأكل التمرة ويرمي بها ولا يدري بهذه، فالقطمير قشرة رقيقة على ظهر النواة، والفتيل الحبل الخفيف الذي يكون في وسطها، والنقير النقطة التي تكون في رأس النواة أو في وسطها بحسب اختلاف الأنواع.ثم قال تعالى بعد ذلك: ((
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ))[النساء:125]، فحكم الله تبارك وتعالى بهذه الآية على هذه الملل والأديان التي تجادلت فقال: ((
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ))[النساء:125]، فالقضية من بعد إبراهيم عليه السلام أنه لا طريق إلى الله إلا ملة إبراهيم عليه السلام، فمن كان عليها ممن كان معه واتبعه في حياته، كما آمن له لوط عليه السلام، والذين جاءوا من بعده، كالنبيين الذين جاءوا بعده من ذريته ودعوا إلى ملته، كما قال الله سبحانه وتعالى: ((
أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا ... ))[البقرة:133] وغيرهم، كلهم كانوا على ملة أبيهم إبراهيم عليه السلام، ثم بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، وهو من الفرع الآخر من ذرية إسماعيل، فدعا إلى ذلك وجدده صلوات الله وسلامه عليه، وأعلى شأن دين إبراهيم الخليل، فنحن -والحمد لله- أولى الأمم بإبراهيم عليه السلام.فلا طريق إلى الله سبحانه وتعالى بعد أن أوحى إليه وأظهر أمره وجعل ملته هي الدين المقبول إلا باتباعه، ولذلك فنحن -المسلمين ولله الحمد- الحنفاء، ونحن على ملة إبراهيم، أما ما يزعمه الذين يقولون: ((
كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ))[البقرة:135]؛ فقد رد الله عليهم ذلك فقال: ((
قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ))[البقرة:135]، وهي الملة التي نحن عليها ولله الحمد، والتي وفق الله سبحانه وتعالى لها هذه الأمة فتمسكت بها بعد أن ضل عنها أهل الكتاب فعصوا وعتوا وخالفوا أنبياءهم، بل بعضهم قتلوا أنبياءهم، وقتلوا أعظم أنبياء بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام إلى عيسى عليه السلام، وهما يحيى وزكريا عليهما السلام، فمنهم من قتل بأيدي
اليهود ، ومنهم من قتل بوشايتهم.أما هذه الأمة فإن الله سبحانه وتعالى كرمها واجتباها واصطفاها: ((
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ))[فاطر:32] فأورثها الله تعالى هذا الكتاب وجعلها هي المتبعة الحقيقية لملة إبراهيم عليه السلام، ولهذا يقول الله تعالى: ((
وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ))[النساء:125]، فمن كان على ملة إبراهيم فهو أحب إلى الله عز وجل، ولهذا رد على قول
اليهود و
النصارى : ((
نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ))[المائدة:18] فقال تعالى: ((
قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ))[المائدة:18] فلو كنتم الأحباء والأولياء والأبناء لم يعذبكم أبداً، وكما قال تعالى: ((
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ))[النساء:123].أما من كان على دين إبراهيم فإن الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم خليلاً، فأحباب الله وأولياء الله هم الذين كانوا على ملة خليل الرحمن، وهذا ما يمكن أن نقف عنده بخصوص هذه الآيات.