المادة    
وقد ذكر المُصنِّفُ بعض هذه الفرق في آخر الكتاب ولا بأس أن نأخذ هنا ما يهمنا حتى نفهم أقسام الفرق في الأخذ بالنصوص.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: [ولفرق الضُلال في الوحي: طريقتان: طريقة التبديل، وطريقة التجهيل، أما أهل التبديل فهم نوعان: أهل الوهم والتخييل، وأهل التحريف والتأويل، فأهل الوهم والتخييل هم الذين يقولون: إن الأَنْبِيَاء أخبروا عن الله واليوم الآخر والجنة والنَّار بأمور غير مطابقة للأمر في نفسه! لكنهم خاطبوهم بما يتخيلون، ويتوهمون به، أن الله شيء عظيم كبير، وأن الأبدان تعاد، وأن لهم نعيماً محسوساً، وعقاباً محسوساً، وإن كَانَ الأمر ليس كذلك، لأن مصلحة الجمهور في ذلك، وإن كَانَ كذباً فهو كذب لمصلحة الجمهور، وقد وضع ابن سينا، وأمثاله قانونهم عَلَى هذا الأصل]اهـ.
  1. أهل الوهم والتخييل ( الفلاسفة )

    فأصحاب التخيل بالجملة هم الفلاسفة، المنتسبين للإسلام،ابن سينا والكندي والفارابي وأمثالهم، ومذهبهم: أن كل ما جَاءَ في الكتاب والسنة فهو عبارة عن تخيلات، وهذه الخطابات التي خاطب الله بها عباده تخيلات، وإنما ذكرت لمصلحة الجمهور، وهم عامة النَّاس ومصلحتهم أن يُقال لهم: هناك عذاب، ونعيم وجنة، ونار حتى تقوم حياتهم وفق قانون منضبط، فتكون حياة عَلَى العدل والاستقامة والخير؛ لكن في الحقيقة هذه الأمور ليس لها أصل من الصحة -هكذا يقولون- والعياذ بالله، وليس بعد هذا الكفر كفر، وهَؤُلاءِ ليسوا من الإسلام في شيء بإطلاق.
    ومن ذلك الرسالة الأضحوية لـابن سينا مطبوعة حققها الدكتور سليمان دنيا، ذكر فيها أن البعث للأجساد ليس حقيقياً - والعياذ بالله - وإنما هو خيال، أي: هذه أشياء خيالية، أو روحانية، إِلَى آخر ما لا يجوز أن ينقل إلا عَلَى سبيل الذم - عافانا الله وإياكم- من هذه الخيالات، وهذه الأباطيل، فهذا المذهب مذهب أهل التخييل الذين يجعلون الخطابات الشرعية مجرد خيالات، فلا يثبتون لا ظواهر النصوص ولا ما دلت عليه، ولا ما نقل عن السلف في شرحها، وهذا هو الذي كَانَ عليه فلاسفة اليونان، والأوربيون من قديم، فإنهم قالوا: إن شرائعهم وأديانهم، ما هي إلا خيالات وتخيلات وإيهامات باطلة لمصلحة الناس، وإلا فلا حقيقة لما يوهمون به
    .
  2. أهل التحريف والتأويل

    الفريق الثاني أهل التحريف والتأويل قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
    [وأما أهل التحريف والتأويل، فهم الذين يقولون: إن الأَنْبِيَاء لم يقصدوا بهذه الأقوال ما هو الحق في نفس الأمر، وأن الحق في نفس الأمر هو ما علمناه بعقولنا، ثُمَّ يجتهدون في تأويل هذه الأقوال إِلَى ما يوافق رأيهم بأنواع التأويلات، ولهذا كَانَ أكثرهم لا يجزمون بالتأويل، بل يقولون: يجوز أن يراد كذا، وغاية مامعهم إمكان احتمال اللفظ] اهـ.
    أي أن الفريق الثاني أهل التحريف والتأويل يقولون: إن هناك معاني جَاءَ بها الأنبياء، وقالوها وتدل عليها النصوص، لكن لا نأخذ معانيها عَلَى ظاهرها؛ بل لا بد أن نؤولها، والحق في نفس الأمر هو ما نعلمه، وما نستنبطه نَحْنُ من القواعد والبراهين العقلية، أما ظواهر النصوص فتُحرف لتوافق ما نَحْنُ عليه، فحسبهم في الرد عليهم وفي بيان بطلان مذهبهم قولهم: إن التأويل ظني، وهم متفقون عَلَى ذلك، وهذا ما جعل أبا المعالي الجويني في الرسالة النظامية يقول: "إن ترك التأويل والانكفاف عنه هو الصحيح" بعد أن كَانَ هو أول من توسع في التأويل؛ لأن شيخ الأشعرية المؤولين الذي ينتسب إليه الأكثر بعد الأشعري، هو القاضي أبو بكر بن الباقلاني، كَانَ يثبت صفة الوجه، ويثبت صفة اليد ويثبت كثيراً من الصفات التي تسمى خبرية؛ حتى جَاءَ أبو المعالي الجويني، فتوسع لهم في التأويل في الشامل، وفي الإرشاد، وبنى عليه بعد ذلك الغزالي، ثُمَّ الرازي المذهب، وأصبح التأويل مشهوراً معلوماً، كما قال صاحب الجوهرة:
    وكل نص أوهمَ التشبيها            أوله أو فوض ورم تنزيها
    فإما أن تؤول، وإما أن تفوض.
    فالمقصود أن مما جعل الجويني يرى أن ترك التأويل هو الصحيح، اتفاقهم عَلَى أن التأويل ظني، وعلى هذا يجوز هذا المعنى، ويجوز غيره، وحسبهم أنهم يتركون ما دل عليه الكتاب والسنة، وفهمه السلف بوضوح، ويحيلوننا إِلَى أمور ظنية ليست بأكيدة، ولا قطعية.
  3. أهل التجهيل والتضليل

    يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [وأما أهل التجهيل والتضليل، الذين حقيقة قولهم: إن الأَنْبِيَاء وأتباع الأَنْبِيَاء جاهلون ضالون، لا يعرفون ما أراد الله بما وصف به نفسه من الآيات، وأقوال الأَنْبِيَاء! ويقولون: يجوز أن يكون للنص تأويل لا يعلمه إلا الله، لا يعلمه جبريل ولا مُحَمَّد ولا غيره من الأنبياء، فضلاً عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يقرأ ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طـه:5] ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ))[فاطر:10] ((مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ)) [صّ:75] ولا يعرف معاني هذه الآيات! بل معناها الذي دلت عليه لا يعرفه إلا الله تَعَالَى!! ويظنون أن هذه طريقة السلف]اهـ.
    الفريق الثالث: التي هي فرقة التجهيل والتضليل، ويسمون أنفسهم المفوضة وأحياناً يقولون نَحْنُ عَلَى مذهب السلف، نفوض المعنى، ونقول: لا يعلم تأويلها إلا الله كما مر معنا في معنى التأويل، فكل نصوص الصفات، وكثير من الآيات الخبرية أو الطلبية لا يعلم معناها إلا الله، هكذا بإطلاق، لا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا جبريل ولا الصحابة ولا أحد يعلم معناها، ويظنون أن هذا هو حقيقة الإيمان وحقيقة مذهب السلف، وهو في الحقيقة تجهيل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللصحابة، وللراسخين في العلم، بأنهم لا يعلمون معاني كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
  4. الرد على أصحاب التأويل

    أما أصحاب التأويل، وهم الأشعرية والماتريدية، فيقال لهم: هذا الباب الذي فتحتموه، وإن كنتم تزعمون أنكم تنتصرون به عَلَى من يثبتون الأسماء والصفات، وتسمونهم مشبهة، وتنتصرون عليهم في مواضع قليلة خفية، قد لا يدرك بعض النَّاس معناها، وبعض الأحاديث قد لا تبلغ بعض الناس.
    يقول المصنف: [فقد فتحتم عليكم باباً لأنواع الْمُشْرِكِينَ والمفسدين، لا تقدرون عَلَى سده، فإنكم إذا سوغتم -أي: جوزتم- صرف القُرْآن عن دلالته المفهومة بغير دليل شرعي، فما الضابط فيما يسوغ تأويله وما لا يسوغ؟ فإن قلتم: ما دل القاطع العقلي عَلَى استحالته تأولناه، وإلا أقررناه].
    أي: أرجعونا إِلَى العقل! فما دلت البراهين والقواطع العقلية عَلَى تأويله أولناه، والذي لا تدل عليه آمنا به فهو بهذا يقول لك: ضع عقيدتك وراء عقلك، كما كتب بعضهم في مقدمة كتاب كبرى اليقينيات الكونية: (الإهداء إِلَى كل حر يضع عقيدته وراء عقله)! فأول شيء تفكر فيه أن تعرض العقيدة عَلَى العقل فإن وافق عليها تماماً فتؤمن بها، وإن لم يوافق عقلك عليها فتردها، إذاً فأين الذين يؤمنون بالغيب؟! أين الذين وصفهم الله بـ((يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)) [البقرة:3]؟! فنقول: إذا كانت القضية قضية الدلالة العقلية، فما الضابط فيما يؤول، وما لا يؤول؟ قالوا: القاطع العقلي، نقول: بأي عقل نزن القاطع العقلي؟
    فالرافضي مثلاً!! يقول له عقله: كل آية فيها وعيد للكفار، فالمقصود بها بنو أمية ومعاوية وعمرو بن العاص وعَائِِِشَةَ.
    والباطني القرمطي يقول: كل آية في القُرْآن فيها وعيد أو عذاب، فهي مجرد تخييل ليس له دلالة ولا أصل في الواقع!، والصلاة هي فلان وفلان أسماء خمسة سبق ذكرهم، والصيام: حفظ الأسرار، والحج: أن نقصد الإمام المستور إِلَى آخر ذلك، وعندما نقول لصاحب العقل: لا بد أن تؤمن بالقرآن، فإنه يقول: إن القاطع العقلي عندي قام عَلَى أني لا أومن بظاهر النص.
  5. بالتأويل الباطل تزندق من تزندق

    وممن يستدل بالقاطع العقلي الباطنية والروافض وهم لا يرجعون إِلَى مجرد القاطع العقلي، لكن يضيفون إِلَى ذلك شيئاً آخر وهو العلم المستور، يأخذونه عن الأبواب والحجج، أو صيحة من ينوب عن الإمام المستور!!
    وهو الإمام الغائب الذي في السرداب أو في غير السرداب، لأن عنده العلم الحقيقي، عنده الجفر والجامعة وهما كتابان، يقولون: إن فيهما كل العلم، وهو ينقل عنهما ويبلغه إِلَى الناس، فيقولون: نَحْنُ لا نؤمن بظاهر القُرْآن والسنة إلا عَلَى هذا المعنى، الذي دلت عقولنا عليه، وهَؤُلاءِ لهم أقوال كثيرة.
    والفيلسوف يقول: قام القاطع العقلي عَلَى أن الحشر ليس حقيقياً، وإنما هو للأرواح.
    والمعتزلي يقول: دل العقل عَلَى أن الرؤية ممتنعة في حق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    والآخر يقول: صفة العلم لله تَعَالَى أو الكلام أو الرحمة دل العقل عَلَى امتناعها، إذاً كل واحد يؤول عَلَى ما يهواه، والعقول تختلف، فما الذي يضبط هذه العقول؟ لأن كل لفظ يمكن أن يؤول حتى قوله تعالى: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ))[البقرة:43] إِلَى آخره، فلا يبقى لدينا أي شيء لا يمكن أن يؤول، إذاً لم يبق من ديننا شيء.
    فإن قالت الأشاعرة والماتريدية: نَحْنُ لا نقصد هذا.
    نقول: نعم، أنتم لم تقصدوا هذا، لكن إذا فتحتم هذا الباب جاءت الفلاسفة، والقرامطة، وَقَالُوا: لماذا تأويلكم أنتم صحيح، ونحن تأويلنا خطأ؟!، تؤولون الاستواء وتؤولون العلو -والعلو ثابت بأدلة تعد بالآلاف- ونحن نؤول البعث، فلا فرق بيننا، هذه آيات وهذا آيات، عندكم قاطع عقلي، وعندنا قاطع عقلي!
    إذاً: لا بد أن يكون لدينا ما يلزم الجميع، وهو تفسير القرآن، بكتاب الله عَزَّ وَجَلَّ وبسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما فسرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة، وفهمها السلف، وما عدا ذلك فهو مبتدع، ثُمَّ قد يكون كفراً، وقد يكون ضلالاً، وقد يكون خطأً.
  6. التأويل ثلاثة أنواع

    التأويل ثلاثة أنواع: فمنه ما هو كفر، مثل تأويل الباطنية، والروافض فقد قالوا في قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً))[البقرة:67] : عَائِِِشَةَ وهذا كفر، لأن موسى يقول ذلك لليهود، وعَائِِِشَةَ لم تكن موجودة ذلك اليوم، وهو تحريف لكلام الله عَزَّ وَجَلَّ مُتعمد.
    ومن التأويل ماهو ضلال: مثل تأويل استوى بمعنى: استولى.
    ومن التأويل ما هو خطأ: مثل ما يقع في كلام بعض السلف، لا عن قصد تحريف للكلام عن موضعه، لكنه يكون قد فهم من الآية فهماً خاطئاً، كما فهم بعضهم أن الكرسي هو العلم فهذا خطأ، والمخطئ في ذلك قد يكون له أجر الخطأ، وليس له أجر الصواب، لكن ليس ضالاً ولا كافراً.
  7. لازم قول المؤولة

    يلزم من قول المؤولة محذوران عظيمان: أحدهما: أن لا نقر بشيء من معاني الكتاب والسنة، فإذاجاء أحدهم وقَالَ: قال الله تَعَالَى كذا، قلنا له: اصبر حتى نفكر، فيمكن أن يكون فيه ما يوجب تأويله، ويمكن أن يكون الظاهر غير مراد.. الخ الموانع العشرة التي قالها الرازي.
    فعندما يأتيك بآية أو حديث لا بد أن تفكر فيه وتنظر هل الجويني أولها، أو أولها الرازي، أو يمكن العلماء قد أولوها؟! لأنهم يرون أن الإيمان بظواهر النصوص كفر كما قالوا: (من أصول الكفر الإيمان بالظاهر).
    المحذور الثاني: أن القلوب تتخلى عن الجزم بشيء مما تعتقده مما أخبر به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ لا يوثق بأن الظاهر هو المراد، والتأويلات مضطربة، كتأويلهم اليد فتارة يقولون: النعمة، القدرة، والجبار قالوا: ملك، وَقَالُوا: ظالم، وَقَالُوا: شيطان، فاختلفت التأويلات!!
    فما آمنا بالكتاب والسنة، لأننا قلنا: إن ظاهره غير مراد، فيجب التأويل، فإذا ذهبت إِلَى التأويل وجدت المؤولين مختلفين، فبكلام من تأخذ؟! فالنتيجة هي الحيرة، فلا يوجد شيء نؤمن به، وهذا ضلال وخروج عن الصراط المستقيم، فترى أحدهم لا يؤمن بشيء مما قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى يتأكد عند شيخ من الشيوخ هل هو من قول أفلاطون! أم من قول أرسطو! أم من القواطع العقلية! أم من البراهين النظرية! فهذا كله من عدم الإيمان؛ لأن الله يقول: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً))[النساء:65] بلا اعتراض، ولا منازعة، ولا مدافعة.
    يقول: [وخاصة النبي: هي "الإنباء" والقرآن "هو النبأ العظيم"] فإذا كَانَ كلما أخبرنا الرَّسُول بشيء قلنا: انتظر حتى نعرضه عَلَى أئمتنا، فقد أفقدنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصيته، ومن القُرْآن خاصيته، ولهذا نجد أهل التأويل إنما يذكرون نصوص الكتاب والسنة، للاعتضاد لا للاعتماد، واقرأ إن شئت شرح العضدية، أو النسفية، أو الجوهرة، اقرأ مائة ورقة، مائتين ورقة، لا تجد آية، وإذا وجدت فليست للاعتماد، بل للاعتضاد والاستئناس، يستأنسون بها مع أنهم متفقون عَلَى أن ظاهرها غير مراد، يقول: وهذا فتح باب الزندقة -نسأل الله العافية- بناءً عَلَى ذلك تزندق من تزندق، وألحد من ألحد، وكفر من كفر، وضل من ضل في كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.