المادة    
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[ والتأويل في كلام المتأخرين من الفقهاء والمتكلمين: هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، لدلالة توجب ذلك، وهذا هو التأويل الذي تنازع الناس فيه في كثير من الأمور الخبرية والطلبية . فالتأويل الصحيح منه: الذي يوافق ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما خالف ذلك فهو التأويل الفاسد، وهذا مبسوط في موضعه، وذكر في التبصرة أن نصير بن يحي البلخي روى عن عمرو بن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة عن محمد بن الحسن رحمهم الله: أنه سئل عن الآيات والأخبار التي فيها من صفات الله تعالى ما يؤدي ظاهره إلى التشبيه ؟ فقال: نمرها كما جاءت، ونؤمن بها، ولا نقول: كيف وكيف، ويجب أن يعلم أن المعنى الفاسد الكفري ليس هو ظاهر النص ولا مقتضاه، وأن من فهم ذلك منه فهو لقصور فهمه ونقص علمه، وإذا كان قد قيل في قول بعض الناس:
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً            وآفتهُ مِنْ الفهم السّقيمِ
وقيـــل:
عليَّ نحت القوافي من معادنها            وما عليَّ إذا لم تفهم البقر
فكيف يقال في قول الله، الذي هو أصدق الكلام وأحسن الحديث وهو الكتاب الذي((أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)) [هود:1] إن حقيقة قولهم: إن ظاهر القرآن والحديث هو الكفر والضلال، وإنه ليس فيه بيان ما يصلح من الاعتقاد، ولا فيه بيان التوحيد والتنزيه !! هذا حقيقة قول المتأولين- والحق أن ما دل عليه القرآن فهو حق، وما كان باطلاً لم يدل عليه .
والمنازعون يدعون دلالته على الباطل الذي يتعين صرفه ! فيقال لهم: هذا الباب الذي فتحتموه، وإن كنتم تزعمون أنكم تنتصرون به على إخوانكم المؤمنين في مواضع قليلة خفية: فقد فتحتم عليكم باباً لأنواع المشركين والمبتدعين، لا تقدرون على سده، فإنكم إذا سوغتم صرف القرآن عن دلالته المفهومة بغير دليل شرعي، فما الضابط فيما يسوغ تأويله وما لا يسوغ؟
فإن قلتم: ما دل القاطع العقلي على استحالته تأولناه، وإلا أقررناه!
قيل لكم: وبأي عقل نزن القاطع العقلي؟
فإن القرمطي الباطني يزعم قيام القواطع على بطلان ظواهر الشرع!
ويزعم الفيلسوف قيام القواطع على بطلان حشر الأجساد، ويزعم المعتزلي قيام القواطع على امتناع رؤية الله تعالى، وعلى امتناع قيام علم أو كلام أو رحمة به تعالى !!
وباب التأويلات التي يدعي أصحابها وجوبها بالمعقولات أعظمُ من أن تنحصر في هذا المقام، ويلزم حنيئذٍ محذوران عظيمان:
أحدهما: أن لا نقر بشيء من معاني الكتاب والسنة حتى نبحث قبل ذلك بحوثاً طويلة عريضة في إمكان ذلك بالعقل، وكل طائفة من المختلفين في الكتاب، يدَّعون أن العقل يدل على ما ذهبوا إليه، فيؤول الأمر إلى الحيرة.
المحذور الثاني: أن القلوب تنحل عن الجزم بشيء تعتقده مما أخبر به الرسول، إذ لا يوثق بأن الظاهر هو المراد والتأويلات مضطربة، فيلزم عزل الكتاب والسنة عن الدلالة والإرشاد إلى ما أنبأ الله به العباد، وخاصة النبي هي الإنباء، والقرآن هو النبأ العظيم، ولهذا نجد أهل التأويل إنما يذكرون نصوص الكتاب والسنة للاعتضاد لا للاعتماد، إن وافقت ما ادعوا أن العقل دل عليه قبلوه، وإن خالفته أولوه! وهذا فتح باب الزندقة والانحلال، نسأل الله العافية.
قوله: [ومن لم يتوق النفي والتشبيه، زل ولم يصب التنزيه].
النفي والتشبيه مرضان من أمراض القلوب، فإن أمراض القلوب نوعان: مرض شبهة، ومرض شهوة، وكلاهما مذكور في القرآن قال الله تعالى: (( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ )) [الأحزاب:32]، فهذا مرض الشهوة، وقال تعالى: (( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً )) [البقرة:10] وقال تعالى: (( وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ )) [التوبة:125]، فهذا مرض الشبهة، وهو أرادأ من مرض الشهوة، إذ مرض الشهوة يرجى له الشفاء بقضاء الشهوة، ومرض الشبهة لا شفاء له إن لم يتداركه الله برحمته. والشبهة التي في مسألة الصفات نفيها وتشبيهها ، وشبهة النفي أرادأ من شبهة التشبيه، فإن شبهة النفي رد وتكذيب لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وشبهة التشبيه غلو ومجاوزة للحد في ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وتشبيه الله بخلقه كفر فإن الله تعالى يقول: (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )) [الشورى:11] ونفي الصفات كفر، فإن الله تعالى يقول: (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )) [الشورى:11] وهذا أحد نوعي التشبيه، فإن التشبيه نوعان: تشبيه الخالق بالمخلوق، وهذا الذي يتعب أهل الكلام في رده وإبطاله، وأهله في الناس أقل من النوع الثاني الذين هم أهل تشبيه المخلوق بالخالق، كعباد المسيح، وعزير والشمس والقمر، والأصنام، والملائكة، والنار ، والماء، والعجل والقبور والجن وغير ذلك، وهؤلاء هم الذين أرسلت لهم الرسل يدعونهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له .
قوله: [فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية، منعوت بنعوت الفردانية، ليس في معناه أحد من البرية] يشير الشيخ رحمه الله إلى أن تنزيه الرب تعالى هو وصفه كما وصف نفسه نفياً وإثباتاً، وكلام الشيخ هنا مأخوذ من معنى سورة الإخلاص، فقوله: "موصوف بصفات الوحدانية" مأخوذ من قوله تعالى: (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ )) [الاخلاص:2،1] وقوله: "منعوت بنعوت الفردانية"، من قوله تعالى: (( اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ )) [الاخلاص:3،2] وقوله: "ليس في معناه أحد من البرية" من قول الله تعالى: ((ولم يكن له كفواً أحد)) وهو أيضا مؤكد لما تقدم من إثبات الصفات ونفي التشبيه والوصف والنعت مترادفان، وقيل: متقاربان، فالوصف للذات، والنعت للفعل، وكذلك الوحدانية والفردانية، وقيل في الفرق بينهما: إن الوحدانية للذات والفردانية للصفات، فهو تعالى متوحد في ذاته متفرد بصفاته، وهذا المعنى حق ولم ينازع فيه أحد، ولكن في اللفظ نوع تكرير، وللشيخ رحمه الله نظير هذا التكرير في مواضع من العقيدة، وهو بالخطب والأدعية أشبه منه بالعقائد، والتسجيع بالخطب أليق، ((وليس كمثله شيء)) أكمل في التنزيه من قوله: "ليس في معناه أحد من البرية] إهـ.

الشرح:
هذا هو المعنى الثالث من أنواع التأويل وهو التأويل الذي اصطلح عليه أهل البدع: وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لقرينة، فيأتون إلى الآية أو الحديث الذي دلالته ظاهرة جلية، فيقولون: هذه الدلالة الظاهرة الجلية هي الاحتمال الراجح، لكن هناك احتمال مرجوح، فهم لا يستطيعوا أن يقولوا: إن ذلك الاحتمال أرجح، لأن هذا واضح لكل من يفهم البيان العربي، يقولون: لكن نصرف اللفظ من الراجح إلى المرجوح لقرينة الدلالة العقلية .
فهذا التأويل بهذا المعنى: هو الذي يقول المصنف -رحمه الله- فيه: [هذا هو التأويل الذي تنازع الناس فيه في كثير من الأمور الخبرية والطلبية] لأن النصوص ترد على نوعين:
النوع الأول: الأخبار.
والنوع الثاني: الطلب.
أي: الأوامر والنواهي، فالأمة وقعت في خلاف حول هذا التأويل في كلا الجانبين، في الأمور الخبرية والأمور الطلبية،
فيقول المصنف: [فالتأويل الصحيح منه: الذي يوافق ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما خالف ذلك، فهو التأويل الفاسد، وهذا مبسوط في موضعه].
هذه العبارة يلاحظ فيها شيء من اللبس إذا دققنا النظر فيها، فهذا اصطلاح بدعي وهو صرف اللفظ إلى الاحتمال المرجوح، فكيف نقول: التأويل بهذا المعنى منه صحيح ومنه باطل ؟ فالصحيح ما يوافق الكتاب والسنة، والباطل ما يخالفه، هكذا بإطلاق، وقد سبق أن قلنا: إن هذا المعنى بدعي، لكن كيف نُوجِّهُ كلام المصنف ؟
لا شك أنه رحمه الله يقصد معنى حقيقياً، لا غبار عليه، ولكن نفس التعبير فيه نظر، فكأنه جعل هذا التأويل بدعي، وجعله على قسمين: قسم منه يوافق الكتاب والسنة، وقسم آخر يخالف الكتاب والسنة فظاهر العبارة قد يفهم هكذا،لكن المقصود هو مجرد صرف النصوص عن ظاهرها، وهل كل ظاهر في الكتاب والسنة، يؤخذ على إطلاقه؟ فهناك من النصوص ما لا يؤخذ على إطلاقه، كالعام المخصص، لأن هذا الإطلاق مخصوص.
والأحكام المطلقة أيضاً، فالمطلق لا يؤخذ ظاهره بإطلاق؛ بل يؤخذ مضموماً إلى النص المقيد له، وكذلك الألفاظ المجملة إذا جاء ما يبينها، فالمقصود هو أن نفهم أنه ليس كل ظاهر في الكتاب والسنة يؤخذ على إطلاقه، ومما يدل على أن هذه العبارة فيها نظر، أننا إذا قلنا: إن كان الدليل يقتضي صرف دلالة الآية أو الحديث عن الظاهر.
إذاً: فليس هذا الظاهر راجحاً ما دام أن هناك دليلاً صحيحاً على صرفه، بل ننظر إلى هذا النص نظرة واحدة وهي أن له ظاهراً، لكن هذا الظاهر مخصوص أو مقيد، إذاً فليس الظاهر راجحاً وما صرفناه إليه مرجوحاً، بل ذاك هو الراجح وهذا يسمى متبادر، أي أن هذا المعنى يتبادر إلى ذهن الإنسان في الأول، لكن إذا تأمل وضم الدلالات إلى بعضها وجد أن هذا الذي يتبادر إلى ذهنه من العموم مثلاً ليس على إطلاقه، لورود نص مخصص يبين ويوضح أن هذا ليس على إطلاقه
.
  1. التأويل بالمعنى الثالث كله مردود

    ونخرج بنتيجة وهي أن التأويل بهذا المعنى كله مردود، وباطل وليس يصح منه شيء، أما مسألة الظاهر والقول به أو عدم القول به فترجع إِلَى أن الظاهر قد لا يكون هو المعنى المراد أصلاً من الشارع عندما خاطبنا، فإن كَانَ في الأمور الخبرية، فإنه لم يرد أن يخبرنا به، وإن كَانَ في الأمور الطلبية، فإنه لم يطلب منا ذلك بإطلاق عَلَى ظاهره، وإنما المقصود من الخبر أو من الطلب أمراً مخصوصاً أو معيناً، وأن غيره لا يدخل فيه.
    وذكر المُصنِّف أنه قد ذُكر في التبصرة -وهو كتاب تبصرة الأدلة لـأبي المعين النسفي، من كتبهم في علم الكلام- بسندٍ عن مُحَمَّد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهما الله تعالى، أنه سئل عن الآيات والأخبار التي فيها من صفات الله تَعَالَى ما يؤدي ظاهره إِلَى التشبيه وليس في الآيات ولا في الأحاديث ما يؤدي ظاهره إِلَى التشبيه في الحقيقة، لكن قد يتبادر عند من لا يفهم أنه يؤدي إِلَى التشبيه، مع أن الله هو الذي وصف نفسه، ووصفه رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع العلم بالفرق بين صفات الخالق والمخلوق، وهذا دليل عَلَى أن ظاهرها حق، وأنها كما جاءت لا نغيرها عن ظاهرها، ولا نكيفها، كما قال الإمام مالك أو شيخه ربيعة [[الاستواء معلوم، والكيف غير معقول أو الكيف مجهول]]، فنمرها كما جاءت ولا نفسرها أي بمعنى: لا نكيفها.
  2. آيات الصفات نمرها كما جاءت

    هناك قاعدة في الصفات وهي: إن كل ما يأتي من نصوص الصفات، فإننا نمرها كما جاءت ونؤمن بها، من دون تحريف ولا تبديل ولا تغيير في المعنى، ولا نخوض في الكيفية
    إذاً: أئمة المذهب الحنفي هم كغيرهم من الأئمة المعاصرين لهم كـسفيان بن عيينة، ووكيع وعبد الله بن المبارك وعبدالرحمن بن مهدي ثُمَّ الإمام أَحْمَد، كل أُولَئِكَ العلماء الأجلاء، كانوا جميعاً عَلَى هذا المذهب وعلى هذه القاعدة الذهبية العظيمة، وهو: أن ما جَاءَ عن الله أو صح عن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنهم يؤمنون به ويثبتونه، ويعتقدون أن ظاهره حق، فنفهم من هذا أن مذهب السلف يتنافى مع التأويل، لأنه قَالَ: (كما جاءت) فلا تأويل، فلا نقول: استوى، بمعنى استولى، واليد بمعنى القدرة، وينزل ربنا أي تنزل رحمته، أو أمره، وإلا فإننا لم نمرها كما جاءت، وإنما حولناها وحرفناها، فالتحريف هو التأويل في حقيقته؛ لأنه يغير المعنى ويغيير اللفظ عما أراده المخاطب الذي قاله.
    ويرد على أهل التفويض الذين لا يثبتون المعنى، يقولون في: الرحمن عَلَى العرش استوى الله أعلم بمراده، وله يد الله أعلم بمراده، وهكذا، لكن السلف الصالح يثبتون المعنى فالاستواء معلوم والكيف غير معقول
    فبعض المفوضة يستدل بمثل هذه النصوص، ويقول: إن مذهب السلف هو التفويض لأنهم قالوا: نمرها كما جاءت، بمعنى نثبت الحروف والألفاظ كما جاءت دون أي فهم، ولا معنى لها، وهذا خطأ، وإنما مقصود السلف، هو أن نثبت ظاهرها ونؤمن به، ونقره ونمره كما جاء، إذاً هذه العبارة التي وردت عن كثير من السلف بمعاني وألفاظ متقاربة ترد عَلَى أهل التأويل، كما ترد عَلَى أهل التفويض
  3. المعنى الكفري ليس هو ظاهر النص ولا مقتضاه

    ثُمَّ يقول المصنف: [ويجب أن يعلم أن المعنى الفاسد الكفري ليس هو ظاهر النص ولا مقتضاه] أراد بهذا أن ينفى ما يقوله أهل البدع والذي قد يفهم من عبارته السابقة خطأً وهو لا يريده، فهنا وضح وقَالَ: المعنى الفاسد الكفري -كأن يقال مثلاً: إن لله يداً كيد المخلوقين- ليس هو ظاهر النص ولا مقتضاه، فلا يدل قوله تعالى: ((يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)) [الفتح:10].
    وقوله: ((بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)) [المائدة:64] عَلَى أنها كيد المخلوقين أبداً، فهذا المعنى الباطل الكفري الفاسد ليس هو ظاهر النص ولا مقتضاه، ومن فهم ذلك وقَالَ: إن العرب لا يفهمون من اليد إلا الجارحة، فإننا نقول: إن كتب اللغة القديمة كانت تقول: إن اليد كذا أو اليد كذا، وتأتي للكلمة الواحدة بعدة معاني في لغة العرب، حتى ظهرت المعتزلة وهم أصحاب التأويل، ونفي الصفات.
  4. الزمخشري يخالف أئمة اللغة

    وممن كَانَ يفعل ذلك مخالفاً لأئمة اللغة الزمخشري في كتابه المعجم الذي سماه أساس البلاغة فيأتي بالمعنى ويقول: معناه كذا والمجاز منه كذا، ويأتي بعدة معاني يجعلها مجازية، ويجعل معنى واحداً هو الأصل.
    وهذا لا يوجد في كلام الخليل، ولا أبي عبيدة، ولا الزجاج، ولا النضر بن شميل وهَؤُلاءِ الذين هم أئمة اللغة المتقدمين، ما كانوا يقولون: إن الكلمة لها معنى أصلي والباقي مجاز، فجاء المعتزلة وفعلوا ذلك ثُمَّ جعلوا المعنى الذي في المخلوق هو الأصل وهو والظاهر والحقيقة، والذي في الله هو المجاز، وَقَالُوا: مثلاً: ننفي عن الله سبحانه، الرحمة؛ لأنها رقة وانكسار في القلب، وهي في المخلوق عَلَى الحقيقة وفي الخالق عَلَى المجاز!! ولو أنهم قالوا: ما يتصف به الله عَزَّ وَجَلَّ هي الرحمة الحقيقية، وهي في المخلوق مجاز أو الملك أو الحكمة في المخلوق مجاز، وفي الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- حقيقة لكان أقرب، أما أن يجعلوا الصفة في المخلوق عَلَى الحقيقة، وما يتصف به الله مجازاً، ثُمَّ ينفونه، فهذا من البدع ومن الضلال، ويكون هذا الظاهر غير مراد، فمن قال ذلك ففي فهمه ضعف وقصور.
  5. وكم من عائب قولاً صحيحاً

    ومن ظن أن الآيات والأحاديث فيها معان فاسدة كفرية باطلة في حق الله عَزَّ وَجَلَّ، وأنها لا بد أن تؤول وأن تخرج عَلَى معاني لغوية، ليستقيم وصف الله تَعَالَى بها، فهذا من فساد عقله وفهمه، ولهذا استشهد المُصنِّف بالبيت الذي قاله المتنبي:
    وكم من عائب قولاً صحيحاً            وآفته من الفهم السقيم
    والمتنبي شاعر مشهور وهو في هذا البيت يعتز بنفسه كما هي عادة الشعراء فهو يقول للذين يعيبون عليه شعره :-
    وكم من عائب قولاً صحيحاً            وآفته من الفهم السقيم
    ولكن تأخذ الأفهام منه            على قدر القرائح والعلوم
    يقول: أنا أقول كلاماً ولا يفهمه كثير من الناس، لكن يجب عليهم أن يفهموا من كلامي عَلَى قدر عقولهم، وتبقى هناك معاني لا يفهمها الناس، سُبْحانَ اللَّه! هذا الوصف لا يصح أن يقال إلا في القُرْآن أو في الحديث، الذي فيه من الحكم والعبر ما تعجز عنه العقول، أما شعر شاعر لا نأخذ منه إلا عَلَى قدر عقولنا، والباقي عميق لا يفهمه النقاد، ولا حتى ابن جني، ولا حتى النقاد الكبار، الذين انتقدوا المتنبي؟! فهذا من الاعتداد والفخر الكاذب، فأولى بهذا الوصف أن يكون لكلام الله عَزَّ وَجَلَّ وأنه:
    وكم من عائب قولاً صحيحاً            وآفته من الفهم السقيم
    مثل ما تروى أحاديث القدر، كحديث عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ {إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة..} قيل: للبدعي أتتهم رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: لا، أتتهم ابن مسعود؟ قَالَ: لا، أتتهم أبا وائل؟ قَالَ: نعم، في رواية قَالَ: اتهم من بعده.
    فهو لا يستطيع أن يتهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخاف كذلك أن يتهم الصحابي فقَالَ: أتهم الذي رواه من التابعين أو أتباع التابعين، فيقال له: أنت لم تفهم الحديث.
    وهَؤُلاءِ النَّاس لو كانوا منصفين أو عَلَى الحقيقة لاتهموا عقولهم، فالنقلة الحفاظ الأثبات نقلوا الكلام بحق، وليسوا بمتهمين فيه، والصحابة والعلماء أجل النَّاس وأعظمهم فهماً وقد فهموا هذه النصوص بلا تعارض، إذاً فالمتهم هو عقول هَؤُلاءِ.
    وكم من عائب قولاً صحيحاً            وآفته من الفهم السقيم
    ولو اتهموا عقولهم لما اتهموا أحداً من السلف، ولا من الرواة النقلة، كما فعل الرازي في أساس التقديس عندما اتهم أكثر الرواة حتى الشيخين، بل حتى أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال البحتري:
    عليَّ نحت القوافي من معادنها            وما عليَّ إذا لم تفهم البقر
    النقاد ينتقدون شعره فَيَقُولُ: أنا علي أن آتي بالقوافي من معادنها الأصلية والمعاني الجزلة البليغة، وما علي إذا لم تفهم البقر، وكأن الذين لا يفهمون شعره من البقر، فإذا كَانَ هذا ما قاله شاعر أو آخر في كلامه، فكلام الله عَزَّ وَجَلَّ كما قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
    [فكيف يقال في قول الله، الذي هو أصدق الكلام، وأحسن الحديث] كما قال ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان يكرره في خطبه الثابتة المشهورة [وهو الكتاب الذي ((أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)) [هود:1]] اهـ.
    فإن الأفهام تعجز عن إدراك حقيقته، والعيب ليس فيه، ولكن في الذين لا يفهمونه، وحاشاه من العيوب.
  6. حقيقة قول المتأولين

    ثُمَّ يقول المُصنِّف رحمه الله تعالى: [إن حقيقة قولهم إن ظاهر القُرْآن والحديث هو الكفر والضلال، وإنه ليس فيه بيان لما يصلح من الاعتقاد، ولا فيه بيان التوحيد والتنزيه، هذا حقيقة قول المتأولين] اهـ.
    يقول السنوسي في شرح العقائد الكبرى: من أصول الكفر الأخذ بظواهر النصوص، كآيات الصفات، كاليد والاستواء، وما أشبه ذلك فجعلوها من أصول الكفر عافانا الله وإياكم؛ لأن هذه الظواهر تدل عَلَى الكفر، فيقول لا بد أن نحولها ونحرفها عن معانيها، وقالأبو المعالي الجويني -وتبعه كثير من الأشعرية في هذا-: نَحْنُ نؤول تأويلاً كلياً، وكذلك قال الرازي: نؤول تأويلاً كلياً، أي: نقول كل آيات وكل أحاديث الصفات ظاهرها غير مراد: وهذا يسمى التأويل الإجمالي، لقيام القاطع والبرهان العقلي عَلَى أن الله لا يشبهه شيء، ولا يشبه هو شيئاً، فكلها مؤولة تأويلاً إجمالياً، ثُمَّ إن شئت قلت: الله أعلم بمعانيها الحقيقية، وإن شئت أخذت في التأويل التفصيلي.
  7. التأويل عند الأشاعرة نوعان

    التأويل عند الأشاعرة نوعان: التأويل الإجمالي: وهو أن ترد كل معاني الصفات في الجملة وتقول بأن ظاهرها غير مراد، لقواطع وبراهين عقلية قامت عَلَى أن الله لا يشبهه شيء، فهذا هو التأويل الإجمالي، أما التأويل التفصيلي: أن تأخذ كل آية من آيات الصفات، وتخرجها بتأويل عَلَى مقتضى أي وجه من أوجه اللغة أو أي معنى كان، ولو كَانَ معنى بعيداً، ومثال ذلك ما ذكره أبو حامد الغزالي في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يضع الجبار قدمه" قَالَ: الجبار هو الرجل الظالم، أو ملك يخلقه الله، يضع قدمه في النَّار.
    المهم أن نخرج الكلام بأي معنى من المعاني، فهذا هو التأويل التفصيلي، وقد سبق أنهم يقولون: إن ظاهر النصوص هو الضلال، ولا بد من تأويلٍ إما تفصيلي وإما إجمالي لهذه النصوص، إذاً فحقيقة قولهم هذا أن ظاهر القُرْآن هو الضلال، وأنه ليس فيه ما يصلح للاعتقاد، وليس فيه توحيد، ولا تنزيه، هذا حقيقة ما يقوله هَؤُلاءِ المؤولون.