المادة    
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[ والتأويل في كلام المتأخرين من الفقهاء والمتكلمين: هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، لدلالة توجب ذلك، وهذا هو التأويل الذي تنازع الناس فيه في كثير من الأمور الخبرية والطلبية . فالتأويل الصحيح منه: الذي يوافق ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما خالف ذلك فهو التأويل الفاسد، وهذا مبسوط في موضعه، وذكر في التبصرة أن نصير بن يحي البلخي روى عن عمرو بن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة عن محمد بن الحسن رحمهم الله: أنه سئل عن الآيات والأخبار التي فيها من صفات الله تعالى ما يؤدي ظاهره إلى التشبيه ؟ فقال: نمرها كما جاءت، ونؤمن بها، ولا نقول: كيف وكيف، ويجب أن يعلم أن المعنى الفاسد الكفري ليس هو ظاهر النص ولا مقتضاه، وأن من فهم ذلك منه فهو لقصور فهمه ونقص علمه، وإذا كان قد قيل في قول بعض الناس:
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً            وآفتهُ مِنْ الفهم السّقيمِ
وقيـــل:
عليَّ نحت القوافي من معادنها            وما عليَّ إذا لم تفهم البقر
فكيف يقال في قول الله، الذي هو أصدق الكلام وأحسن الحديث وهو الكتاب الذي((أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)) [هود:1] إن حقيقة قولهم: إن ظاهر القرآن والحديث هو الكفر والضلال، وإنه ليس فيه بيان ما يصلح من الاعتقاد، ولا فيه بيان التوحيد والتنزيه !! هذا حقيقة قول المتأولين- والحق أن ما دل عليه القرآن فهو حق، وما كان باطلاً لم يدل عليه .
والمنازعون يدعون دلالته على الباطل الذي يتعين صرفه ! فيقال لهم: هذا الباب الذي فتحتموه، وإن كنتم تزعمون أنكم تنتصرون به على إخوانكم المؤمنين في مواضع قليلة خفية: فقد فتحتم عليكم باباً لأنواع المشركين والمبتدعين، لا تقدرون على سده، فإنكم إذا سوغتم صرف القرآن عن دلالته المفهومة بغير دليل شرعي، فما الضابط فيما يسوغ تأويله وما لا يسوغ؟
فإن قلتم: ما دل القاطع العقلي على استحالته تأولناه، وإلا أقررناه!
قيل لكم: وبأي عقل نزن القاطع العقلي؟
فإن القرمطي الباطني يزعم قيام القواطع على بطلان ظواهر الشرع!
ويزعم الفيلسوف قيام القواطع على بطلان حشر الأجساد، ويزعم المعتزلي قيام القواطع على امتناع رؤية الله تعالى، وعلى امتناع قيام علم أو كلام أو رحمة به تعالى !!
وباب التأويلات التي يدعي أصحابها وجوبها بالمعقولات أعظمُ من أن تنحصر في هذا المقام، ويلزم حنيئذٍ محذوران عظيمان:
أحدهما: أن لا نقر بشيء من معاني الكتاب والسنة حتى نبحث قبل ذلك بحوثاً طويلة عريضة في إمكان ذلك بالعقل، وكل طائفة من المختلفين في الكتاب، يدَّعون أن العقل يدل على ما ذهبوا إليه، فيؤول الأمر إلى الحيرة.
المحذور الثاني: أن القلوب تنحل عن الجزم بشيء تعتقده مما أخبر به الرسول، إذ لا يوثق بأن الظاهر هو المراد والتأويلات مضطربة، فيلزم عزل الكتاب والسنة عن الدلالة والإرشاد إلى ما أنبأ الله به العباد، وخاصة النبي هي الإنباء، والقرآن هو النبأ العظيم، ولهذا نجد أهل التأويل إنما يذكرون نصوص الكتاب والسنة للاعتضاد لا للاعتماد، إن وافقت ما ادعوا أن العقل دل عليه قبلوه، وإن خالفته أولوه! وهذا فتح باب الزندقة والانحلال، نسأل الله العافية.
قوله: [ومن لم يتوق النفي والتشبيه، زل ولم يصب التنزيه].
النفي والتشبيه مرضان من أمراض القلوب، فإن أمراض القلوب نوعان: مرض شبهة، ومرض شهوة، وكلاهما مذكور في القرآن قال الله تعالى: (( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ )) [الأحزاب:32]، فهذا مرض الشهوة، وقال تعالى: (( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً )) [البقرة:10] وقال تعالى: (( وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ )) [التوبة:125]، فهذا مرض الشبهة، وهو أرادأ من مرض الشهوة، إذ مرض الشهوة يرجى له الشفاء بقضاء الشهوة، ومرض الشبهة لا شفاء له إن لم يتداركه الله برحمته. والشبهة التي في مسألة الصفات نفيها وتشبيهها ، وشبهة النفي أرادأ من شبهة التشبيه، فإن شبهة النفي رد وتكذيب لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وشبهة التشبيه غلو ومجاوزة للحد في ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وتشبيه الله بخلقه كفر فإن الله تعالى يقول: (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )) [الشورى:11] ونفي الصفات كفر، فإن الله تعالى يقول: (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )) [الشورى:11] وهذا أحد نوعي التشبيه، فإن التشبيه نوعان: تشبيه الخالق بالمخلوق، وهذا الذي يتعب أهل الكلام في رده وإبطاله، وأهله في الناس أقل من النوع الثاني الذين هم أهل تشبيه المخلوق بالخالق، كعباد المسيح، وعزير والشمس والقمر، والأصنام، والملائكة، والنار ، والماء، والعجل والقبور والجن وغير ذلك، وهؤلاء هم الذين أرسلت لهم الرسل يدعونهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له .
قوله: [فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية، منعوت بنعوت الفردانية، ليس في معناه أحد من البرية] يشير الشيخ رحمه الله إلى أن تنزيه الرب تعالى هو وصفه كما وصف نفسه نفياً وإثباتاً، وكلام الشيخ هنا مأخوذ من معنى سورة الإخلاص، فقوله: "موصوف بصفات الوحدانية" مأخوذ من قوله تعالى: (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ )) [الاخلاص:2،1] وقوله: "منعوت بنعوت الفردانية"، من قوله تعالى: (( اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ )) [الاخلاص:3،2] وقوله: "ليس في معناه أحد من البرية" من قول الله تعالى: ((ولم يكن له كفواً أحد)) وهو أيضا مؤكد لما تقدم من إثبات الصفات ونفي التشبيه والوصف والنعت مترادفان، وقيل: متقاربان، فالوصف للذات، والنعت للفعل، وكذلك الوحدانية والفردانية، وقيل في الفرق بينهما: إن الوحدانية للذات والفردانية للصفات، فهو تعالى متوحد في ذاته متفرد بصفاته، وهذا المعنى حق ولم ينازع فيه أحد، ولكن في اللفظ نوع تكرير، وللشيخ رحمه الله نظير هذا التكرير في مواضع من العقيدة، وهو بالخطب والأدعية أشبه منه بالعقائد، والتسجيع بالخطب أليق، ((وليس كمثله شيء)) أكمل في التنزيه من قوله: "ليس في معناه أحد من البرية] إهـ.

الشرح:
هذا هو المعنى الثالث من أنواع التأويل وهو التأويل الذي اصطلح عليه أهل البدع: وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لقرينة، فيأتون إلى الآية أو الحديث الذي دلالته ظاهرة جلية، فيقولون: هذه الدلالة الظاهرة الجلية هي الاحتمال الراجح، لكن هناك احتمال مرجوح، فهم لا يستطيعوا أن يقولوا: إن ذلك الاحتمال أرجح، لأن هذا واضح لكل من يفهم البيان العربي، يقولون: لكن نصرف اللفظ من الراجح إلى المرجوح لقرينة الدلالة العقلية .
فهذا التأويل بهذا المعنى: هو الذي يقول المصنف -رحمه الله- فيه: [هذا هو التأويل الذي تنازع الناس فيه في كثير من الأمور الخبرية والطلبية] لأن النصوص ترد على نوعين:
النوع الأول: الأخبار.
والنوع الثاني: الطلب.
أي: الأوامر والنواهي، فالأمة وقعت في خلاف حول هذا التأويل في كلا الجانبين، في الأمور الخبرية والأمور الطلبية،
فيقول المصنف: [فالتأويل الصحيح منه: الذي يوافق ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما خالف ذلك، فهو التأويل الفاسد، وهذا مبسوط في موضعه].
هذه العبارة يلاحظ فيها شيء من اللبس إذا دققنا النظر فيها، فهذا اصطلاح بدعي وهو صرف اللفظ إلى الاحتمال المرجوح، فكيف نقول: التأويل بهذا المعنى منه صحيح ومنه باطل ؟ فالصحيح ما يوافق الكتاب والسنة، والباطل ما يخالفه، هكذا بإطلاق، وقد سبق أن قلنا: إن هذا المعنى بدعي، لكن كيف نُوجِّهُ كلام المصنف ؟
لا شك أنه رحمه الله يقصد معنى حقيقياً، لا غبار عليه، ولكن نفس التعبير فيه نظر، فكأنه جعل هذا التأويل بدعي، وجعله على قسمين: قسم منه يوافق الكتاب والسنة، وقسم آخر يخالف الكتاب والسنة فظاهر العبارة قد يفهم هكذا،لكن المقصود هو مجرد صرف النصوص عن ظاهرها، وهل كل ظاهر في الكتاب والسنة، يؤخذ على إطلاقه؟ فهناك من النصوص ما لا يؤخذ على إطلاقه، كالعام المخصص، لأن هذا الإطلاق مخصوص.
والأحكام المطلقة أيضاً، فالمطلق لا يؤخذ ظاهره بإطلاق؛ بل يؤخذ مضموماً إلى النص المقيد له، وكذلك الألفاظ المجملة إذا جاء ما يبينها، فالمقصود هو أن نفهم أنه ليس كل ظاهر في الكتاب والسنة يؤخذ على إطلاقه، ومما يدل على أن هذه العبارة فيها نظر، أننا إذا قلنا: إن كان الدليل يقتضي صرف دلالة الآية أو الحديث عن الظاهر.
إذاً: فليس هذا الظاهر راجحاً ما دام أن هناك دليلاً صحيحاً على صرفه، بل ننظر إلى هذا النص نظرة واحدة وهي أن له ظاهراً، لكن هذا الظاهر مخصوص أو مقيد، إذاً فليس الظاهر راجحاً وما صرفناه إليه مرجوحاً، بل ذاك هو الراجح وهذا يسمى متبادر، أي أن هذا المعنى يتبادر إلى ذهن الإنسان في الأول، لكن إذا تأمل وضم الدلالات إلى بعضها وجد أن هذا الذي يتبادر إلى ذهنه من العموم مثلاً ليس على إطلاقه، لورود نص مخصص يبين ويوضح أن هذا ليس على إطلاقه
.
  1. التأويل بالمعنى الثالث كله مردود

  2. آيات الصفات نمرها كما جاءت

  3. المعنى الكفري ليس هو ظاهر النص ولا مقتضاه

  4. الزمخشري يخالف أئمة اللغة

  5. وكم من عائب قولاً صحيحاً

  6. حقيقة قول المتأولين

  7. التأويل عند الأشاعرة نوعان