المادة    
التنافس في الدنيا هو الذي أدى إِلَى أن توضع كتب التناظر وكتب المقالات وذكر مثالين: المغني وهو كتاب للقاضي عبد الجبار المعتزلي المتوفي سنة (415) وهو أكبر وأجمع كتاب من كتب المعتزلة وهو في علم الكلام وفي الضلال، والقاضي عبد الجبار هو: إمام المعتزلة المتأخرين، ولم يظهر في المعتزلة بعده مثله وحتى قبله النظام والعلاف كانا في الابتداء، وأكبر مصدر ومرجع للمعتزلة هو كتاب المغني.
وكتب القاضي عبد الجبار مجلدات ومنها: كتاب الأصول الخمسة الذي شرح فيه الأصول الخمسة التي هي أصول المعتزلة، وقد نقب المستشرقون وأتباعهم وأذنابهم عن كتاب المغني في جميع مكتبات العالم، وهو مكون من عشرين مجلداً ولم يستطيعوا أن يظفروا إلا بأربعة عشر مجلداً متفرقة غير مرتبة، والستة الأخرى ضائعة، وهم متحسرون عليها، ونرجو أن لا يجدوها، ولا يوجد فيه إلا كما قَالَ المُصنِّفُ هنا: [لحم جمل غث، عَلَى رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى] بعد طول الكلام المعقد غير المفهوم يقرر شيئاً جَاءَ في آية، أو في حديث عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويُغني عن كل ما كتب هذا الرجل من تعقيد وتطويل.
وأما كتاب العمد هذا، فهو لـأبي الحسن الأشعري: ويمتاز كتاب العمد عن بقية كتب الأشعري بأنه ذكر فيه كتبه وهي تعد بالمئات قيل: إنها مائتين وقيل إنها ثلاثمائة كتاب ألفها الأشعري قد تكون رسائل صغيرة، وقد تكون مجلدات، فقد قال في كتابه العمد: رددت عَلَى المجوس وعلى النَّصارَى وعلى الثنوية وعلى النظام وعلى العلاف وعلى ابن الراوندي وعلى ابن الخياط وعلى الكعبي وعلى الخالدي وعلى كذا وعلى كذا.. ذكر أصنافاً من أهل الضلالة، ومن أمم الكفر رد عليها.
وكتاب العمد خاص لإثبات الرؤية؛ لكن كيف يثبت الأشعرية الرؤية؟ وننظر كلام المُصنِّفُ لنرى التطويل والتعقيد.
يقولون: هذه الرؤية ليست في جهه، يعني: ليس أحد لا الرائي ولا المرئي في جهة وليس فيها تقابل، أي أن: الإِنسَان ليس في مقابل الله -عَزَّ وَجَلَّ- وليس فيها أبعاد ولا فيها كذا ولا كذا فعقدوا الموضوع.
ولو جئنا إِلَى أحد من أهل السنة وقلنا له: هل تثبت الرؤية؟
فسيقول: نعم، قال الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ))[القيامة:22، 23] تقول له: كيف يُرى؟ يقول: قال الله عَزَّ وَجَلَّ:((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الشورى:11] لا نعلم الكيفية، فهذا عالم الآخرة لا ندركه، وإننا لا ندرك حقائق الجنة والنَّار ونعيمها، فضلاً عما يتعلق بالله عَزَّ وَجَلَّ.
هذه الخلاصة أن تأتي بآية أو بآيتين من كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- وتريحك عما عداها، وهم يأتون بفلسفات: هل النظر لا بد أن يكون من شعاع ينطلق من العين ويقع عَلَى المرئي؟ أو يخرج من المرأي، والبعد والجهة والمقابلة كلام طويل جداً، وفي الأخير نثبت رؤية لا تتفق مع ما جَاءَ في الكتاب والسنة. وغاية ما فيها أننا دحضنا شبهات المعتزلة في إنكار الرؤية بحجج لو جَاءَ في المعتزلة من هو أذكى لنقض هذه الحجج، ولقَالَ: لا تتصور المقابلة إلا بين اثنين متناظرين.... إلخ.
ولكن إذا قلنا: قال الله، وقال رَسُول الله، ألجمنا المخالف إلجاماً تاماً، وأثبتنا ما جَاءَ في الكتاب والسنة وكنا عَلَى يقين وثقة من أننا لم نقلد فلاناً من النَّاس الذي قد يرد عليه فلان، إنما اتبعنا ما أنزل الله عَلَى مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال الإمام مالك: (أو كلما جَاءَ أحد هو ألحن بحجته من الآخر تركنا ما نزل به جبريل عَلَى مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لقول ذلك الآخر)
لا نقف عند حد إذاً: لا المغني ولا العمد يعطينا الحق الذي نريده، وإنما تطويل وتعقيد وتكلف، والشاعر بهذين المثالين يشير إِلَى أن علم الكلام وكتب المناظرات والمقالات لكلا الفرقتين المعتزلة والأشاعرة لم يحصلوا فيها العلم النافع، ولم يدلونا عليه ولن يفعلوا ذلك فإنما وضعت الكتب في هذا العلم من أجل التنافس عَلَى الدنيا فأشار بـالمغني إِلَى المعتزلة وبـالعمد إِلَى الأشعرية.
والمقصود بالتنافس عَلَى الدنيا هنا ليس بمعنى الحصول عَلَى المال، وإنما هو إثبات أن الإِنسَان لم يفحم في المناظرة، فالتنافس كَانَ عَلَى المكانة الدنيوية، وكان يعز عَلَى أي متكلم أن يُقَالَ: إن فلاناً قد غلبك وأفحمك، فالتنافس من أجل أن يُقَالَ: فلان رد عَلَى فلان وفلان غلب فلاناً، هذا الذي كَانَ عليه علماء الكلام في السابق، وهم لا يسمون علماء إلا بالتقييد، ولا يدخلون في العلماء -وكما سبق أن أوضحنا أنه إذا وقف أحدٌ ماله، وقَالَ: هذا وقف للعلماء أو لطلبة العلم، فلا يدخل فيه علماء الكلام- لأن علم الكلام ليس بعلم كما في فتاوى أهل العلم، وحتى لا يُقَالَ: فلان غلب فلاناً، كَانَ كل منهم يفتعل الحجج والبراهين، ويفتري عَلَى الخصم الآخر ليبين أنه لم يغلب وأنه لم يهزم.
ومن الأدلة عَلَى ذلك: أنهم يكتبون عن مذهب السلف الصالح فيقولون: قالت الحشوية: إنه تَعَالَى جسم عَلَى العرش يمسه كما يمس الجسم الجسم إذا وضع عليه، ثُمَّ يردون عَلَى هذا الكلام الذي هو من وضعهم وعندهم فيه خبرة، وعندهم كلمة "المثلية" فيقولون: لا يمكن أن يكون جوهر عَلَى جوهر، ولا جسم عَلَى جسم...، وهم لم يردوا عَلَى منهج السلف وإنما ردوا عَلَى الكلام الذي وضعوه ثُمَّ نقضوه، فالتنافس يمكن أن يفسر بأنه تنافس في المناظرة والمجادلة.

والمناظرة والمجادلة غالباً ما تحمل صاحبها عَلَى التمحل، وعلى أن يكون للنفس حظ في هذا الجدل؛ ولهذا نُهينا عن الجدال إلا لحاجة وبالتي هي أحسن؛ حتى مع أهل الكتاب كما قال الله تعالى: ((وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) [العنكبوت:46] ((وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن))[النحل:125] أي: نبين الحق وندحض الباطل ولا نكثر الجدال معهم. ولا نسترسل ليصبح مراءً، فالأمر عند هَؤُلاءِ ليس أمر اقتناع ولا نقص في الحجج ولا ضعف فيها، ولكنه هوىً يجمح بهم، فعلينا أن نوضح لهم الطريق، فإذا استبانت سبيل المجرمين، تركناهم وشأنهم.