المادة    
إن الجدل ليس ممنوعاً بإطلاق ولا ممدوحاً بإطلاق.
وأعظم من ذلك أننا نستدل عَلَى الحق بالبراهين العقلية والنظرية؛ فالله -عَزَّ وَجَلَّ- استدل عَلَى أعظم قضية كَانَ ينكرها المُشْرِكُونَ -وهي قضية البعث بعد الموت- بالأدلة العقلية الحسية المشاهدة، مثل ضرب المثل في الأرض الهامدة كيف أن الله ينزل عليها الماء فتحيا وكذلك يحي الموتى، وغير ذلك من الآيات التي جعلها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أمثلة وعبر، فالجدال والاستدلال للحق ليس مذموماً.
لكن الاستدلال للحق بالمنهج الكلامي هو المذموم، وهذا هو الذي كرهه السلف الصالح -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم- فكرهوه، كما قَالَ: [لاشتماله عَلَى أمور كاذبة مخالفة للحق، ومن ذلك مخالفتها للكتاب والسنة، وما فيه من علوم صحيحة، فقد وعروا الطريق إِلَى تحصيلها، وأطالوا الكلام في إثباتها مع قلة نفعها] ثُمَّ ذكر المثل المعروف عند العرب [فهي لحم جمل غث، عَلَى رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى] فحال علماء الكلام غاية ما فيه أنهم يحصلون قضايا بدهية، كما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ- في درء تعارض العقل والنقل وهو الخبير بهم وبأحوالهم يقول: إن ما اتفق عليه الخائضون في الأمور العقلية من فلاسفة ومتكلمين لا يكادون يتفقون إلا عَلَى ما يتفق عليه عقلاء بني آدم الذين لم يتعلموا من علم الكلام شيئاً. وإذا أراد علماء الكلام أن يضربوا مثلاً في قضية متفق عليها ماذا يقولوا؟ كما أن الكل أكبر من الجزء.
إذاً: ما دام الجزء من الشيء فالشيء كله أكبر من جزئه، فيأتون بهذا المثال من شدة ما أفلسوا في القضايا البرهانية لم يبق لديهم إلا الاستدلال عَلَى أمور لا ينكرها ولا يكابر فيها أحد من العقلاء حتى الذين لم يشغلوا أنفسهم بهذه العلوم، وقوله: [وأحسن ما عندهم فهو في القُرْآن أصح تقريراً، وأحسن تفسيراً، فليس عندهم إلا التكلف والتطويل والتعقيد] هذا هو حال علماء الكلام: فلو أرادوا أن يثبتوا صفة الإرادة مثلاً يقولون: إذا نظرنا إِلَى الكون نجد أن فيه تخصيص. هذا طويل، وهذا قصير، وهذا غني، وهذا فقير، ويطيلون بكلام لا يكاد يفهم صفحات طويلة تخرج منها بأن الخالق الذي خلق هذا البشر مريد، وهذه القضية بدهية عند كل مسلم: أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يريد ويفعل ما يريد، كما هو في الكتاب والسنة لكنهم لا يريدون هذه الطريق، وإنما يريدون الطرق العقلية كما يقولون، ولهذا قال هذا الشاعر الذي لم نعثر عَلَى اسمه، ولا عَلَى عصره؛ لكنه قال بيتين وهما في معناهما من أجود ما قيل يقول:
لولا التنافس في الدنيا لما وضعت            كُتْب التناظر لا المغني ولا العمـدُ
يحللـون بزعم منهـم عقـدا            وبالذي وضعوه زادت العقـدُ.