المادة    
فالقسمة العقلية المجردة النظرية تقتضي أن تكون المذاهب في هذا الموضوع أربعة، ولكن الموجود منها ثلاثة:
القول الأول: -وهو أضعفها- أنه لا يمكن دوامها لا في الماضي ولا في المستقبل، وهذا قول الجهم بن صفوان، وأبي الهذيل العلاف من شيوخ المعتزلة.
وهذا القول تفرد به الجهم بن صفوان وأبو الهذيل العلاف، وهو قول شاذ حتى عند جميع أهل الملل، والفلاسفة، واليهود، والنَّصارَى، فلم يقولوا: بأن الحوادث لا تدوم لا في الماضي ولا في المستقبل، وينبني عليه أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يكن خالقاً، ولا متكلماً، ولا فعالاً لما يريد في زمن من الأزمان، ثُمَّ حدث له ذلك - كما يقولون - فانتقل الأمر من الامتناع الذاتي إِلَى الإمكان الذاتي، ومن ذلك قولهم: إن الجنة والنَّار تفنيان، وعالم الملأ الأعلى يفنى.

والقول الثاني: يمكن دوامها في المستقبل الذي لا آخر له، ويسمى الأبد، ولا يمكن دوام نوع الحوادث في -الزمن الذي لا أول له- الأزل.
وهَؤُلاءِ هم الكرامية والأشعرية والشيعة وبعض المعتزلة وبعض المنتسبين للمذاهب الأربعة، يقولون: لم يكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الماضي خالقاً، ولا رازقاً، ولا مُحيياً، ولا مميتاً؛ لأنه لم يكن هناك خلق يخلقهم، ولا يرزقهم، ولا يحييهم أو يميتهم قبل أن توجد هذه الحوادث، وأما في المستقبل فالإمكان وارد؛ لأن أهل الجنة وأهل النَّار يبقون أبد الآبدين ولا يفنون.

القول الثالث: وهو الذي عليه أكثر أهل السنة والحديث من العلماء، وهو الذي انتصر له الإمام أَحْمَد -رَحِمَهُ اللهُ-: وهو أن أنواع الحوادث دائمة عَلَى طرفي الزمان بحسب الماضي والمستقبل، وهناك فرق بين هذا القول وبين قول الفلاسفة فإنهم يقولون: إن الكون أو بعضه، أو الأفلاك، أو العقول العشرة التي سماها أفلاطون، وما أشبه ذلك، قديمةٌ كقدم الله تعالى، ويسمونه واجب الوجود أي: الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
إن الأفلاك أو العقول أو هذا الكون المشهود إذا قيل:إنه لا أول له، هو كفر، وتكفر به الفلاسفة، ومنهم: ابن سينا والفارابي وأمثالهم.
وأما أهل السنة فإنهم لا يتكلمون عن عين من أعيان المخلوقات، فلا يقولون: العرش قديم، ولا القلم قديم أي أزلي، وإنما يقولون: الجنس -جنس الحوادث- وأما الأعيان فكل مخلوق بذاته فهو مخلوق خلقه الله بوقت ما، وسيفنيه متى شاء.
فنفترض أن هذا المخلوق كَانَ قبله شيء مخلوق وكلها مخلوقة، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي ابتدأ خلقها لا أحد سواه، أما هو جل شأنه. فإنه لا شيء قبله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

القسم الرابع: قلنا: إنه لم يقل أحد أنه يمكن أن تكون الحوادث لا أول لها في الماضي، ولا يمكن أن تكون في المستقبل، والقسم الرابع قسمة عقلية لم يقل به أحد.
والمسألة طويلة ومعقدة، وتعتمد عَلَى قضايا كثيرة لا يستطيع العقل أن يستوعبها، مثل: قضية الأزل، وتصور شيء لا أول له.
والزمان مخلوق من مخلوقات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، نقدره في الأرض بالليل والنهار الذي جعله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا، لنعرف بها مواقيت عبادتنا والآجال والأعمار.
ولو تصورنا ما معنى الأزل قبل أن تخلق السماوات والأرض، وكيف يكون الزمان بعد أن تفنى السماوات والأرض وتكور الشمس والقمر، لأدركنا حينئذ أننا لا ندري حقيقة الزمان، ولا نستطيع أن نفهمها، ومع ذلك فإنه مما خلقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
والفخر الرازي المتوفى في أوائل القرن السابع، - إمام الأشعرية في عصره، وحوى وتبحر في العقليات والكلام الشيء الكثير -، فكتب كتاباً أسماه المباحث المشرقية وهو كتاب مطبوع وذكر عشرة براهين في نفي حوادث لا أول لها، وأنه لا يصلح القول: بحوادث لا أول لها.
فجاء شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ ولم يكن قصده أن يرد عَلَى الفخر الرازي، لكن جَاءَ الذي سمى نفسه ابن المطهر الحلي وهو رافضي أبعد شيء عن الطهارة في الاعتقاد والعمل، فألف كتاباً أسماه " منهاج الكرامة " فأخذ ابْن تَيْمِيَّةَ يستعرض أقواله، فلما جَاءَ بمسألة الحدوث تطرق للبراهين العشرة التي للرازي، فنقضها شَيْخ الإِسْلامِ نقضاً طويلاً.

وما ذكره المُصنِّفُ هنا في هذه المواضع إنما هو اختصار لها.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[ولا شك أن جمهور العالم من جميع الطوائف يقولون: إن كل ما سوى الله تَعَالَى مخلوق، كائن بعد أن لم يكن، وهذا قول الرسل وأتباعهم من الْمُسْلِمِينَ واليهود والنَّصارَى وغيرهم.
ومن المعلوم بالفطرة أن كون المفعول مقارناً -لفاعله لم يزل ولا يزال معه- ممتنع محال ولما كَانَ تسلسل الحوادث في المستقبل. لا يمنع أن يكون الرب سبحانه هو الآخر الذي ليس بعده شيء، فكذا تسلسل الحوادث في الماضي لا يمنع أن يكون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الأول الذي ليس قبله شيء، فإن الرب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لم يزل ولا يزال يفعل ما يشاء، ويتكلم إذا يشاء، قال تعالى: ((قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)) [آل عمران:40] وقال تعالى: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد)) [البقرة:253] وقال تعالى: ((ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)) [البروج:15، 16] وقال تعالى: ((وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه)) [لقمان:27] وقال تعالى: ((قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً)) [الكهف:109]، والمثبت إنما هو الكمال الممكن الوجود، وحينئذ فإذا كَانَ النوع دائماً، فالممكن والأكمل هو التقدم عَلَى كل فرد من الأفراد بحيث لا يكون في أجزاء العالم شيء يقارنه بوجه من الوجوه. وأما دوام الفعل، فهو أيضاً من الكمال، فإن الفعل إذا كَانَ صفة كمال فدوامه دوام الكمال] اهـ

الشرح:
كل من يؤمن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من أصحاب الملل، كاليهود والنَّصارَى والمجوس من الفلاسفة ومن غيرهم، يقولون: بأن كل ما سوى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فهو مخلوق، ومع ذلك يقولون بدوام نوع هذه المخلوقات إِلَى ما لا نهاية له في المستقبل، كما قلنا: إن الجنة والنَّار تبقى إِلَى الأبد، وهذا لا ينافي أن يكون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الآخر كما جَاءَ في الحديث: {وأنت الأخر فليس بعدك شيء}، فإذا أمكن ذلك، فما المانع من مقابله أيضاً، أن يكون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو الأول الذي ليس قبله شيء، ومع ذلك فإن نوع حوادث المخلوقات قديم.
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَانَ ولم يزل فعالاً لما يريد، متكلماً كما يشاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ((كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)) [آل عمران:40] ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد))[البقرة:253] ((فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)) [البروج:16] وهناك آيات متعلقة بكلامه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كقوله تعالى: ((وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه)) [لقمان:27]، والكلمات هي أوامر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- التي تكون بها المخلوقات وغير ذلك، فهذا دليل عَلَى أن أفعال الله وكلماته لا تتناهى أزلاً ولا أبداً، وهذا من صفات كماله سبحانه.
وإنما يكون النقص والعيب لو أننا افترضنا مخلوقاً من مخلوقاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى متقدماً عليه أو متأخراً عنه، وأما القول بأن كل مخلوق يخلقه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ثُمَّ يفنيه إذا شاء أن يفنيه؛ فهذا لا يقتضي نقصاً، بل النقص أن يقَالَ: إنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يكن متكلماً، ولم يكن مريداً لما يشاء في ذلك الزمن سواء كَانَ الأزل أو الأبد.
فالكمال الذي نريد إثباته لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو: أنه فعال لما يريد، متكلم بما يشاء في أي زمن من الأزمان، ونفي ما سوى ذلك هو النقص، إذا افترضنا أنه كَانَ ممتنعاً عليه من الكمال.

ثُمَّ ابتدأ المُصنِّفُ يرد عليهم في قولهم: إن هذا يلزم منه التسلسل.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[قالوا: والتسلسل لفظ مجمل، لم يرد بنفيه ولا إثباته كتاب ولا سنة، ليجب مراعاة لفظه، وهو ينقسم إِلَى واجب وممتنع وممكن.
وكالتسلسل في المؤثرين محال ممتنع لذاته، وهو أن يكون مؤثرون كل واحد منهم استفاد تأثيره ممن قبله لا إِلَى غاية.
والتسلسل الواجب: ما دل عليه العقل والشرع من دوام أفعال الرب تَعَالَى في الأبد، وأنه كلما انقضى لأهل الجنة نعيم أحدث لهم نعيماً آخر لا نفاد له.
وكذلك التسلسل في أفعاله سبحانه من طرف الأزل، وأن كل فعل مسبوق بفعل آخر، فهذا واجب في كلامه، فإنه لم يزل متكلماً إذا شاء، ولم تحدث له صفة الكلام في وقت، وهكذا أفعاله التي هي من لوازم حياته، فإن كل حي فعال، والفرق بين الحي والميت بالفعل، ولهذا قال غير واحد من السلف الحي الفعال. وقال عثمان بن سعيد: كل حي فعال، ولم يكن ربنا تَعَالَى قط في وقت من الأوقات معطلاً عن كماله، من الكلام والإرادة والفعل.
وأما التسلسل الممكن، فالتسلسل في مفعولاته من هذا الطرف. كما تتسلسل في طرف الأبد، فإنه إذا لم يزل حياً قادراً مريداً متكلماً -وذلك من لوازم ذاته- فالفعل ممكن له بوجوب هذه الصفات له، وأن يفعل أكمل من أن لا يفعل، ولا يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه، فإنه سبحانه متقدم عَلَى كل فرد من مخلوقاته تقدماً لا أول له، فلكل مخلوق أول، والخالق سبحانه لا أول له، فهو وحده الخالق وكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن] اهـ

الشرح:
أولاً: كلمة التسلسل ليست كلمة شرعية، فلم ترد في الكتاب ولا في السنة لا بنفى ولا إثبات حتى نراعيها، لأن اللفظ الذي يجب علينا أن نراعيه هو ما جَاءَ في كتاب الله أو في سنة رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما جَاءَ في الكتاب نفيه يجب أن نراعي نفيه دائماً، وما جَاءَ في الكتاب إثباته فيجب أن نراعي إثباته دائماً، لكن ما لم يأت نفيه ولا إثباته فنحن ننظر فيه ونقيسه بالمقاييس الشرعية الكتاب والسنة، فإن كَانَ الأمر يقتضي نفيه نفيناه، وإن كَانَ الأمر يقتضي إثباته نثبته، وإن كَانَ فيه تفصيل فصلنا.
وهذه الكلمة مما فيه تفصيل، فنقول: لا نطلق القول بأن التسلسل ممنوع، فإنا لو نظرنا إِلَى ما في الكتاب والسنة من البراهين لوجدنا أن التسلسل ثلاثة أقسام، وترد عليه الأحكام الثلاثة وهي: الوجوب أو الامتناع أو الجواز.
وهذه الأحكام يسمونها: "الأحكام العقلية الثلاثة التي ترد عَلَى كل شيء"، فإما أن يكون واجب الوجود، أو ممتنع الوجود، أو ممكن الوجود، أي: جائز أن يوجد وجائز أن لا يوجد.
وهذه الأحكام العقلية الثلاثة ترد عَلَى التسلسل، فمنه واجب يجب أن نثبته لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومنه ممتنع يجب أن ننفيه عنه، ومنه ما هو ممكن وجائز.
  1. التسلسل الممنوع

  2. التسلسل الواجب

  3. التسلسل الممكن

  4. الرد على المتكلمين