يقول الإمام مالك إمام دار الهجرة -رَحِمَهُ اللهُ ورَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: (أو كلما جاءنا رجل ألحن بحجته من الآخر أخذنا بقوله وتركنا ما نزل به جبريل عَلَى مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إذا جعلنا الدين مرتهناً بالجدل والآراء والحجج والبراهين العقلية، فإنه لا بد أنه كلما أتانا رجل ألحن بالحجة ممن قبله، نترك ما نزل به جبريل عَلَى مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونأخذ بكلام هذا أو ذاك، فإذا كَانَ لدينا المنهج الواضح، فلنتمسك به، وندع تلك الآراء، وتلك الجدليات جميعاً.
وابن القيم رَحِمَهُ اللهُ لمَّا ذكر هذا الكلام قَالَ: وأنا سألت أحد هَؤُلاءِ الذين يقدمون عقولهم أو آراء مشايخهم عَلَى النص الثابت عن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت له: أنشدك بالله لو أن رَسُول الله حي اليوم بين ظهرانينا، وقال لك: افعل كذا. أيجوز لك ويحق لك أن تقول: انتظر حتى أعرض هذا القول عَلَى قول الشيخ أو الإمام أو المذهب؟
قَالَ: لا ودهش.
قَالَ: فقلت: أو إن كَانَ قد غاب بشخصه، وسنته باقية توقف القول والاعتقاد وما كانت عليه سنته حتى تعرضها عَلَى الإمام أو الشيخ أو المذهب؟!
ما الفرق بين كونه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشخصه يأمرنا وبين كون سنته تأمرنا؟
أما هو صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد لحق بالرفيق الأعلى لكن دينه وسنته وشرعه باق فإذا بلغنا الحديث الصحيح عن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالواجب المبادرة للامتثال والطاعة بدون أي تردد هذا هو الذي يجب عَلَى كل مسلم.
أما أهل الضلال فيأتيهم الحديث عن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول القائل: وهذا الحديث مع صحته قد ثبت لدى أرباب الكشف خلافه، عجيب!! ومن أرباب الكشف؟
يقول هَؤُلاءِ الذين خوطبوا وكوشفوا بالعلم اللدني!
والآخر يقول: وهذا الحديث وإن رواه الشيخان أو غيرهما إلا أن القواطع العقلية قد قامت عَلَى رده!
بل ذكر بعضهم أن الأخذ بظواهر النصوص من أصول الكفر -عافانا الله وإياكم- يريد دون أن يعرضها عَلَى ما يدعونه من البراهين العقلية، إذاً فهَؤُلاءِ ليسوا موحدين في الحقيقة لأنهم عارضوا ما جَاءَ به النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إما بخيال -يسمونه كشفاً وهو في الحقيقة خيال وضلال- أو بأوهام وظنون وتخرصات ويظنون أنها آراء عقلية وقواطع وبراهين نظرية.
يقول المصنف: [فنوحده بالتسليم والتحكيم والانقياد والإذعان] أي: نوحد الرَّسُول صلى الله عليه وسلم بالتسليم والتحكيم والانقياد والإذعان كما نوحد الله تَعَالَى بالعبادة والخضوع والإنابة والتوكل فهما توحيدان لا نجاة للعبد إلا بهما قال جل شأنه:((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّه)) [النساء:64] وقال:((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [النساء:65] فهذا هو الواجب في حقه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يحاكم إِلَى غيره ابتداء ولا يرضى بحكم غيره -إذا بلغه حكمه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإن كَانَ عالماً من أهل الاجتهاد من الصحابة أو ممن دونهم، لانقدم قول أحد منهم عَلَى قول رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نعم، له أجر الاجتهاد ولكن ليس له أجر الصواب؛ لأنه أخطأ عندما قال قولاً يخالف قوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن كَانَ لهذا المعارض مصدراً آخر غير الدين وغير الاجتهاد كَانَ يكون كشفاً أو عقلاً أو فلسفةً أو منطقاً أو علوماً من العلوم التي قال الله عنها: ((فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)) [غافر:83] علم النفس، أو علم الاجتماع، أو علم الاقتصاد، أو أي شيء قيل عنه: إنه علم فإننا نكذبه ونرده.
ثُمَّ يقول المصنف: [ولا يوقف تنفيذ أمره وتصديق خبره عَلَى عرضه عَلَى قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه] فإن أصحاب الطرق يقولون هذا الحديث لا بد أن نعرضه عَلَى شيخ الطريقة، ويقولون: كن بين يديه كالميت بين يدي الغاسل، فما لك أمر ولا نهي حتى تأتي بالحديث تعرضه عَلَى الشيخ، إذاً فالمرجع هنا الشيخ وأصحاب المذهب يقول فيهم المصنف: [إن أذنوا له نفذه وقبل خبره، وإلا فإن طلب السلامة فوضه إليهم وأعرض عن أمره وخبره] يقول: نَحْنُ نريد الحق وهَؤُلاءِ الأئمة الأربعة لا يأخذون إلا من الكتاب والسنة فنحن نفوض الأمر إليهم ونتبعهم، أو يقول أنا مفوض أمري إِلَى شيخ الطريقة وهذا الحديث لابد أنه بلغ صاحب المذهب أو شيخ الطريقة وهو أعرف مني، فما قاله الشيخ أنا أقول به! وكأن المُصنِّفُ يصف ويشرح حالهم قديماً وحديثاً هذا إن طلب السلامة وأكثر من ذلك وأشد ما قاله الرازي: وإلا اشتغلنا بتأويلها عَلَى سبيل التبرع، يعنى: عند ذكر حديث النزول وغيره من أحاديث الصفات فإنه سوف يردها مباشرة لأنها ستعارض القواطع العقلية فيكون ردها جملة بناءً عَلَى القانون الذي ذكره -أي الرازي- أو يقول: عَلَى سبيل التبرع يأخذ هذه الأحاديث واحداً واحداً ويؤولها! وفي هذا غاية الاحتقار للوحي وللنص.
يقول: [وسمى تحريفه تأويلاً وحملاً] فقَالَ: نؤوله ونحمله [فلأن يلقى العبد ربه بكل ذنب -ما خلا الإشراك بالله- خير له من أن يلقاه بهذه الحالة] بل إذا بلغه الحديث الصحيح يعد نفسه كأنه سمعه من رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه صح عنه وثبت، كأنه يقول له: افعل كذا، ولا يؤخر العمل به إن كَانَ مما يعمل به، أو يعتقده اعتقاداً جازماً إن كَانَ خبراً، فلا يؤخر العمل حتى يعرضه عَلَى الشيخ أو المذهب والأصحاب، ولا عَلَى العقل ولا عَلَى أي رأي من الآراء [ولا يستشكل قوله لمخالفة رأي فلان، بل يستشكل الآراء لقوله] فيستشكل كيف خالف فلان الحديث وإن كَانَ عالماً؟ فلا نقول: وهذا الحديث يشكل لأنه خالف ما عليه المذهب، أو القياس! كما يقولون في حديث المصراة وهو أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر الإِنسَان إذا اشترى ناقة أو بقرة أو شاة صريت أن يردها مع صاع من تمر) حديث صحيح لا شك في صحته، فَقَالَ أصحاب القياس: هذا الحديث مشكل؛ لأنه يخالف القياس وحاولوا أن يردوه أو يؤولوه! وأمثال ذلك من الأحاديث التي تجدونها في أبواب الفقه ابتداء من الطهارة وانتهاء بالشهادات والإقرار، وكثير جداً من يقدم محض القياس -كما يسمونه- عَلَى الحديث الصحيح الثابت عن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَيَقُولُ: [ولا يعارض نصه بقياس بل تهدر الأقيسة وتتلقى نصوصه] إذا كَانَ هذا في الفقه فما الظن في أمور الاعتقاد وأمور الغيب، حتى في الفقه لا شك أن النص يجب أن يقدم وذلك ضرورة عَلَى القياس؛ لأن القياس يقوم عَلَى النص ولهذا فضل شَيْخ الإِسْلامِ في رسالته تفضيل مذهب آراء أهل المدينة عَلَى أهل العراق لأن الأول: مبني عَلَى الحديث والنص، والثاني: عَلَى الرأي والقياس، ويدل عَلَى ذلك المناظرة التي جرت بين أبي يوسف الحنفي، والشَّافِعِيّ وكان شيخه مالك في الحديث وهو معلوم أنه كَانَ متبع للسنة ويعمل بعمل أهل المدينة، وأبو يوسف من تلاميذ الإمام أبي حنيفة على مذهب أهل العراق الذين يأخذون بالرأي.
فَقَالَ الشَّافِعِيّ أنشدك الله أصاحبنا أعلم بالقرآن أم صاحبكم؟
قَالَ: بل صاحبكم.
قَالَ: أنشدك الله أصاحبنا أعلم بالسنة أم صاحبكم؟
قَالَ: بل صاحبكم.
قَالَ: فعلى أي شيء يكون القياس إذا كنا أخذنا القاعدة من الكتاب والسنة، وكان هذا أعلم بالكتاب والسنة؛ فيقدم مذهبه؛ لأن القياس فرع لا يصار إليه إلا عند فقدان الأصل، كما لا يُصار إِلَى التيمم إلا عند فقدان الماء،
وكان علماء السلف كالإمام أَحْمَد وإسحاق بن راهويه وأمثالهم من العلماء كـابن المبارك، وابن عيينة ممن كانوا عَلَى الأثر، والحديث يعدون أهل الرأي من جملة أهل البدع الذين يردون الحديث بآرائهم، مع أن هذه مسألة أصولية اجتهادية.
فما بالكم بالذين جاؤوا من بعدهم وردوا الدين والغيبيات وأحوال اليوم الآخر وصفات الله بالأقيسة والعقول لا شك أن هَؤُلاءِ أشد بدعة وضلالاً من أُولَئِكَ فالتسليم للوحي هو الأصل الذي يجب أن يكون عليه كل مسلم.
ولا يحاكم إِلَى غير رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا بالأمور الخبرية ولا بالأمور الغيبية الشرعية، فهذا رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثبت لدينا أنه حكم عَلَى الزاني الثيب بالرجم فيقول عبد الله بن عباس رضي الله عنه: من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن حقيقة، وإن لم يذكر في القُرْآن ولكن لأدلة تفصيليه كثيرة، فالذي يعارض ذلك بالقوانين الوضعية المنقولة عن الأمم المتحضرة، التي ترى أن علاقات الحب علاقات سليمة لا غبار عليها، وأن الرجم لرجل وامرأة زنيا بالتراضي بينهما وحشية وكيف يرجما؟! هذا هو الكفر الصراح.
وقد كفر العلماء من قال بذلك، وفي القديم جيء إِلَى نصير الكفر الذي يسمونه نصير الدين الطوسي -الذي كَانَ وزيراً للتتار- وقد جيء إِلَى السلطان الوالي برجلين فعلا فاحشة -اللواط- فَقَالَ: لا بد أن يقام عليهما الحد.
فقَالَ: الفاعل منهما إنما فعلت ذلك برضى ذلك المفعول.
فَقَالَ نصير الكفر الذي أظهر الله كفره في ذلك المجلس، قَالَ: نعم، وماذا نصنع بشريعة نبي العرب؟!
نعوذ بالله فكفره العلماء بذلك فكل من يعلم -من أهل السنة- بحقيقة نصير الكفر الطوسي فإنه يحكم بكفره؛ لأنه مع كفره وزندقته كَانَ رافضياً وعلى دين الفلاسفة الذين يرون هذه الآراء وأصبح هذا الأمر هو القاعدة المعمول بها حتى في ديار الإسلام يزعمون الإيمان بمُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم لا يقيمون حدود الله التي أمر بها وأقامها بحجة أنهما ماداما متراضيين فلا حرج، وشارب الخمر لا حرج من شربه لها ما لم يحدث حادثا -أي: حادثاً مرورياً- أو اعتداء عَلَى أي شخص، فلا حرج في ذلك أبداً.
فتحكيم أو قبول كلام هَؤُلاءِ وتحكيم أي قانون من هذه القوانين هو محض الكفر والردة عن دين الله تعالى، وتكذيب لمُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإذا قال علماؤنا فيمن يقدم القياس -وهو اجتهاد من الشرع- عَلَى النص ما قد سبق أن نقلناه فكيف بمن يقدم قوانين الكفار؟! كما يقَالَ: أثبت علماء النفس أن الاختلاط يهذب الجنسين، فهل نُقدم كلام علماء النفس أم نُقدم كلام رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! لذا قال المصنف: [فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عقاب الله إلا بهما: توحيد المرسل وتوحيد متابعة الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا يحاكم إِلَى غيره ولا نرضى بحكم غيره].
فمثلاً: الاختلاط شر ومعصية حتى لو كَانَ بين الأطفال المميزين الذين قد لا يرتكبون هذا الفاحشة، وحتى ولو من المثقفين الكبار، لا كما يقولون: من الممكن أن تكون الفاحشة بسبب الأمية أو الجهل إذا اختلت المرأة بالرجل، لكن فتاة مثقفة في الطب أو في الجامعة في المراحل النهائية تقع في الفاحشة مع رجل مثقف لا يمكن! وهذه معارضة لقول رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
{ما خلا رجل بامرأة} أيا كَانَ هذا الرجل مثقفاً أو غير مثقف وأياً كانت هذه المرأة مثقفة أو غير مثقة
{إلا كَانَ الشيطان ثالثهما} بل هذا رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كَانَ ماشياً ومعه أم المؤمنين ورآه الأنصاريان قَالَ:
{على رسلكما إنها صفية} وهذا لكي يعلمنا الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هذه الأمور بالغة الدقة والحساسية ويجب عَلَى الإِنسَان أن يبتعد عن أي شبهة في هذا المجال، فكل من قدم، أو قال قولاً أو رأى رأياً، أو دعى إِلَى رأي، وهو يعلم مخالفته لما جَاءَ به الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه لم يوحد الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتحكيم والمتابعة، وهذا هو الذي ينطبق عليه قوله تعالى:
((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [النساء:65] والأمثلة عَلَى ذلك كثيرة جداً.
ومجمل القول وصفوته هو كلام رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما صح عنه عملنا به وما قاله من خبر آمنا به وصدقناه واعتقدناه عَلَى الغيب فهذا ما يجب أن يكون عليه المؤمنون كما قال في أول سورة بعد الفاتحة
((الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ))[البقرة:3] ثُمَّ قَالَ:
((وَيُقِيمُونَ الصَلاةَ))[البقرة:3].