المادة    
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[ولهذا ألزم المعتزلة من نفى العلو بالذات بنفي الرؤية، وَقَالُوا: كيف تعقل رؤية بغير جهة.
وإنما لم نره في الدنيا لعجز أبصارنا، لا لامتناع الرؤية، فهذه الشمس إذا حدق الرائي البصر في شعاعها ضعف عن رؤيتها، لا لامتناع في ذات المرئي؛ بل لعجز الرائي، فإذا كَانَ في الدار الآخرة أكمل الله قوى الآدميين حتى أطاقوا رؤيته.
ولهذا لما تجلى الله للجبل ((وَخَرَّ مُوسَى صعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ(( [الأعراف:143] بأنه لا يراك حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده، ولهذا كَانَ البشر يعجزون عن رؤية الملك في صورته إلا من أيده الله، كما أيد نبينا قال تَعَالَى:((وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ)) [الأنعام:8].
قال غير واحد من السلف: لا يطيقون أن يروا الملك في صورته، فلو أنزلنا إليه ملكاً لجعلناه في صورة بشر وحينئذ يشتبه عليهم: هل هو بشر أو ملك؟ ومن تمام نعمة الله علينا أن بعث فينا رسولاً منا.
وما ألزمهم المعتزلة هذا الإلزام إلا لما وافقوهم عَلَى أنه لا داخل العالم ولا خارجه، لكن قول من أثبت موجوداً يرى لا في جهة، أقرب إِلَى العقل من قول من أثبت موجوداً قائماً بنفسه لا يرى ولا في وجهه.
ويقال لمن قال بنفي الرؤية لانتفاء لازمها وهو الجهة: أتريد بالجهة أمراً وجودياً أو أمراً عدمياً؟ فإن أراد بها أمراً وجودياً كَانَ التقدير: كل ما ليس في شيء موجود لا يرى، وهذه المقدمة ممنوعة ولا دليل عَلَى إثباتها بل هي باطله، فإن سطح العالم يمكن أن يرى، وليس العالم في عالم آخر، وإن أردت بالجهة أمراً عدمياً كانت المقدمة الثانية ممنوعة، فلا نسلم أنه ليس في جهة بهذا الاعتبار.
وكيف يتكلم في أصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة وإنما يتلقاه من قول فلان؟ وإذا زعم أنه يأخذه من كتاب الله لا يتلقى تفسير كتاب الله من أحاديث الرسول، ولا ينظر فيها ولا فيما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان، المنقول إلينا عن الثقات النقلة الذين تخيرهم النقاد، فإنهم لم ينقلوا نظم القُرْآن وحده؛ بل نقلوا نظمة ومعناه، ولا كانوا يتعلمون القرآن، كما يتعلم الصبيان؛ بل يتعلمونه بمعانية ومن لا يسلك سبيلهم، فإنما يتكلم برأيه، ومن يتكلم برأيه وما يظنه دين الله، ولم يتلقَ ذلك من الكتاب والسنة، فهو مأثوم وإن أصاب، ومن أخذ من الكتاب والسنة، فهو مأجور وإن أخطأ؛ لكن إن أصاب يُضَاعفُ أجره] إهـ.
.
الشرح:
موضوع إثبات الرؤية له علاقة بنفس الأحاديث بموضوع إثبات علو الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فلما ذكر المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ قول النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنكم سترون ربكم كما ترون هذا} في الحديث المتفق عليه أراد المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أن يستدرك أن هذا الحديث لا يقتضي أن يشبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالقمر ولا بالشمس، وإنما التشبيه تشبيه الرؤية بالرؤية، لا تشبيه المرئي بالمرئي.
ثُمَّ قَالَ: وفي ذلك دليل عَلَى علو الله عَلَى خلقه لأن كلام النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كلا الحالتين -عندما أشار إِلَى الشمس أو أشار إِلَى القمر في الليلة التي كَانَ فيها القمر أو لما قَالَ: {هل ترون الشمس أو ترون القمر ليس بينكم وبينها قتر ولا سحاب} كان يشير إِلَى شيء أعلى وهو هذا المخلوق - الشمس أو القمر - وهو في جهة العلو، فدل ذلك عَلَى علو الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى خلقه.

وإثبات علو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من أعظم ما تدل عليه النصوص والفطر والعقول حتى أن الأدلة عَلَى العلو من القُرْآن والسنة وكلام السلف لا تعد بالمئات فقط، بل قد تكون بالآلاف فالعلو ثابت بالأدلة، وبالنصوص وبالعقول وبالفطر، وأما الاستواء فهو الذي ثبت بالنص فالنَّاس قبل إرسال النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى العرب في الجاهلية وغيرهم أصحاب الفطرة كل من يؤمن بالله بفطرته يعلم أنه تَبَارَكَ وَتَعَالَى فوق المخلوقات ويثبت له العلو، لكن الاستواء لا يثبته له تَعَالَى إلا من قرأ وسمع الوحي ينزل عَلَى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهذا لا يعلم بالعقل ولا بالفطرة وإنما يعلم عن طريق الوحي، وكلاهما يدل عَلَى الآخر.
  1. مذاهب الناس في الرؤية والعلو .