المادة    
ذكر المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- تَعَالَى أن هنالك طائفة من المتأخرين المنتسبين إِلَى الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم والفضل يقولون: إنما نتلقى عن الأئمة أحكام الحلال والحرام، وأما ما يتعلق بمسائل الاعتقاد وأمور الإيمان والغيب، فهذا نأخذه من أهل الكلام مع إطباق الأئمة عَلَى ذم علم الكلام وأهله، كما هو منقول في هذا الكتاب عندما نقل كلام الأئمة رحمهم الله تعالى، ومنهم الإمام أبا حنيفة وصاحباه، والشَّافِعِيّ وغيرهم في ذم أهل الكلام، وقالوا ذلك في كتب الفتاوى الحنفية كـالفتاوى الظهيرية وغيرها وقد نصت: عَلَى أنه إذا أوقف الرجل وقفاً وجعله لأهل العلم فإن أهل الكلام لا يدخلون فيه، لأن الإمام أبا حنيفة نص عَلَى أن علم الكلام ليس من العلوم الشرعية، وكذلك صاحباه.
فهكذا ينصون عليه في فتاواهم التي تقتفي أثر أئمتهم السابقين، ولكنهم مع ذلك يدَّعون ويزعمون أن الحق في أمور العقيدة ليس مع هَؤُلاءِ الأئمة، وأن هَؤُلاءِ الأئمة إنما كانوا عَلَى مذهب السلف الذي هو مجرد تفويض المعنى دون علم وفهم للصفات!
وليس الموضوع خاصاً بالصفات؛ بل بكل أبواب العقيدة؛ فهو متعلق بالإيمان، وبالقدر، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبغير ذلك من أبواب العقيدة، كما ستأتي إن شاء الله تعالى.

ونجد أن كثير اً من المتأخرين من أتباع الأئمة قد خالفوا أئمتهم المتقدمين أعلام الهدى المجمع عَلَى الاقتداء بهم -وكما سبق- أن الانتساب عند المتأخرين أصبحت نسبة ثلاثية، فتجدهم يذكرون ثلاثة ألقاب فيقولون: فلان الحنفي مذهباً الماتريدي عقيدة الجنيدي أو القادري طريقة، فلان بن فلان الحنبلي مذهباً القادري طريقة الأشعري عقيدة، وكذلك المالكي وهكذا، فنجد أن هناك ثلاث نسب: نسبة في الفقه وهذه للإمام.
والنسبة الثانية: في العقيدة وهذه للمتكلمين والنسبة الثالثة: في السلوك وطريقة العبادة: وهذه يجعلونها لأحد أئمة الطرق الصوفية الذي ارتضوه شيخاً لهم،
مع أن الأمة عندما أجمعت عَلَى فضل الأئمة الأربعة ارتضوا الآخرين كالإمام الأوزاعي، وابن المبارك، والفضيل بن عياض، ووكيع بن الجراح، وعبد الرحمن بن مهدي، وسفيان بن عيينه، وسفيان الثوري، والطبري وأمثالهم من الأئمة الأجلاء، فعندما أجمعت الأمة عَلَى فضل هَؤُلاءِ الأئمة والاقتداء بهم لم تجمع عليهم لكونهم أئمة في الفقه فقط فقد يستنبطون أحكاماً دون أن يكون لهم منهج صحيح في العبادة، فلو أن لهم مخالفةً في أمورِ العقيدةِ لنُسِبوا إِلَى البدعةِ، ولُذِكَرَ ما عندهم من المخالفات في العقيدة، ولما كانوا أئمة يحتج بهم، ومجمعاً عَلَى فضلهم.
ولهذا لما أخطأ الإمامُ أبو حنيفة -رَحِمَهُ اللهُ- في مسألة الإيمان بيِّن الأئمة ذلك الخطأ مع إجلالهم له وإجماعهم عَلَى فضله -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- وأنه من الأئمة الذين أجمعت عليهم الأمة، وكذلك الإمام مالك -رَحِمَهُ اللهُ- لا يستطيع أحد أن يطعن في عبادته أو يقلل من تقواه وورعه وزهده، وكان مضرب المثل في عصره ثُمَّ يأتي بعده من يقول: إنه المالكي مذهباً القادري طريقة!!
وهل الإمام مالك -رَحِمَهُ اللهُ- لم يكن لديه من التعبد والزهد والتقوى ما يجعلك لا تجد فيه أسوة في هذا الجانب أبداً؟ وإنما تذهب إِلَى عبد القادر الجيلاني أو الشاذلي أو الجنيد أو إِلَى أي فلان كائناً من كان! هذا الإِنسَان من القرون المتأخرة الذين لا يمكن أن يبلغوا من الفضل والتقى والورع والزهد مبلغ أُولَئِكَ الأئمة.
وكذلك الإمام الشَّافِعِيّ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- كَانَ حجة في جميع العلوم حتى في اللغة والشعر ومع ذلك يقولون: لا نأخذ عن الشَّافِعِيّ في العقيدة، إنما نأخذ عنه الأحكام.
فمثلاً فخر الدين الرازي الإمام المتأخر من الأشعرية كتب كتاباً في مناقب الشافعي يُدافع فيه عن مذهب الشَّافِعِيّ في الفروع، ولكنه في الأصول: كمسألة الإيمان يرجح غير ما رجحه الشَّافِعِيّ، وما ذكره الشَّافِعِيّ هو الصحيح، ونقل الإجماع عليه من الأئمة، ومع ذلك يخالفه!

والعجيب أن أتباع هَؤُلاءِ الأئمة هم من المقلدين المتعصبين للإمام في مسائل نجد أن الأئمة رحمهم الله خالفوا فيها الدليل وهذا لا يستغرب أن أحداً من الأئمة كائناً من كَانَ يكون له فتوى أو رأياً فقهياً مخالفاً للحديث الصحيح، وقد ذكر شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ- أسباب ذلك في كتابه رفع الملام عن الأئمة الأعلام وذكر من الأسباب أنه قد لا يبلغ الإمام الحديث، وقد يفهمه عَلَى غير وجهه أو قد لا يرى صحته وغيرها من الأسباب.
فالمهم أن الإمام قد يخطئ ويكون له بذلك أجر واحد عَلَى اجتهاده. مع أن الأئمة رحمهم الله جميعاً نصوا عَلَى أنه إذا خالف قول أحدهم الحديث الصحيح: فإنه يجب علينا أن نأخذ بالحديث وأن يضرب بأقوالهم عرض الحائط، لكن أتباعهم خالفوهم في هذا الشأن، فيتعصبون لهم أشد التعصب في مسائل فقهية مرجوحة وضعيفة.
ومع ذلك فهم لا يأخذون بأقوالهم في العقيدة التي هي مسائل قطعية إجماعية لم يختلف فيها السلف ولم يختلف فيها الأئمة الأربعة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم أجمعين: كمسألة القُرْآن لم يختلف أحد من الأئمة الأربعة أن القُرْآن كلام الله غير مخلوق وسنرى ماذا قاله الأتباع وماذا قال أئمتهم.
فمثلاً يأتي الحنفي فَيَقُولُ: إن شرب النبيذ حلال ما لم يسكر، وأن قليل الخمر الذي لا يسكر حلال.
فيُقال له: إن هذا خلاف حديث النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن الأمر ليس مجرد الإسكار فقط بل الخمر قليلها وكثيرها حرام، كما قال النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
{ما أسكر كثيره فقليله حرام} {وكل مسكر خمر} ومع ذلك يقولون: لا، ويصرون عَلَى كلام الإمام.
وفي مذهب الحنفية: أنه إذا ضحك أحد في الصلاة يجب عليه أن يتوضأ، مع أن القهقهة لا تنقض الوضوء، ولم يثبت في ذلك حديث صحيح عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكنَّ أبا حنيفة -رَحِمَهُ اللهُ- ذكر ذلك فاتبعوه وتمسكوا بقوله أشد التمسك، ولا يقرون بأن أبا حنيفة أخطأ في هذه المسألة، بل الكرخي -أحد أئمتهم المتأخرين- يقول: كل حديث أو قول ليس في مذهبنا فإن الدليل أو الحديث الدال عليه إما منسوخ أو ضعيف أو مؤول والعياذ بالله، ولو كَانَ في صحيح البُخَارِيّ، أو كَانَ غير منسوخ من شدة تعصبهم لكلام الأئمة.
وكذلك الشافعية يأتون مثلاً إِلَى أمور مرجوحة كمسألة اللمس أو المس. فمجرد ملامسة البشرة للبشرة عندهم تنقض الوضوء، مع أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لمس ولمسته أمهات المؤمنين وقبَّل نسائه ولم يتوضأ} ومع ذلك فهم يقولون: إن مجرد اللمس ينقض الوضوء ويتحرجون من ذلك تحرجاً شديداً حتى أن الإِنسَان إذا توضأ يأخذ عَلَى يده أي شيء حتى لا يلمس يد زوجته وهو لا يقصد الشهوة ولا يقصد أي شيء، لكن هذا من شدة التمسك بالمذهب.
فنقول لهم: مع هذا التمسك الشديد في الأمور الفرعية أين التمسك بالأصول القطعية المجمع عليها؟ فالإِنسَان في المسائل الفقهية بين الخطأ أو الصواب ولكنه في أمور العقيدة بين الكفر أو الإيمان، وبين السنة أو البدعة، فأيهما أولى بأن نكون حريصاً عليه؟
إن السلف الصالح رضوان الله عليهم بينوا لنا ذلك، فالصحابة رضوان الله تَعَالَى عليهم اختلفوا في أحكام فقهية من الصلاة والغسل والوضوء والحج والمورايث وفي أمور معلومة، واختلافهم هذا رحمة بالنسبة لنا، لا كما يفهم بعض الذين ينسبون للنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحديث الموضوع {اختلاف أمتي رحمة} إنما هو من باب: أن ديننا يقبل الاجتهاد والنظر، ولو لم يختلفوا لما جاز لنا أن نجتهد إلا أن نقول كما قالوا، ولهذا فنحن نقول في مسائل العقيدة: إن الصحابة أجمعوا عليها فلا يجوز لنا أن نجتهد عَلَى الإطلاق، والصحابة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم- ومع اختلافهم في هذه المسائل فقد اتفقوا عَلَى محاربة أهل البدع.
فعندما ظهرت الخوارج قاتلهم أصحاب النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتالاً بالسيف، ولما ظهرت الشيعة وجاءوا إِلَى عَلِيّ وَقَالُوا: أنت هو، قَالَ: من هو؟ قالوا: أنت الله، فحفر الأخاديد وأحرقهم بالنار ولم يخالفه أحد من الصحابة إلا أن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- قَالَ: لو كَانَ الأمر إليَّ لقتلتهم بالسيف ولم أحرقهم لأن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {لا تعذبوا بعذاب الله} .
فخالفه في الكيفية ولم يخالفه في نفس العمل أي: أنهم متفقون عَلَى أنهم يقتلون، واتفقوا كذلك عَلَى زجر القدرية وهجرهم وتبديعهم لهم والبراءة منهم، كما ورد عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم- فنجد أنهم مع اختلافهم في بعض الفروع فقد اتفقوا الاتفاق التام في العقيدة والأصول ومحاربة أهل الضلال والزيغ والابتداع.
وورث الأئمة الأربعة وغيرهم من علماء الْمُسْلِمِينَ وأئمتهم وفضلائهم؛ ما كَانَ عليه الصحابة والتابعون في هذا الشأن، حتى نبغ هَؤُلاءِ المتأخرون وخالفوا في ذلك، وقالوا كما ذكر المصنف: نأخذ من الأئمة ونتلقى عنهم الأحكام فقط، وأما في أمور العقيدة وأصول الدين والإيمان فإننا نأخذها من المباحث العقلية التي حررها فلان، وفلان من أهل البدع ومن أهل الكلام، وهذا الذي من أجله أراد المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- أن يرد عَلَى مذهب الماتريدية الحنفية بكلام الطّّحاويّ وكلام الإمام أبي حنيفة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ-.