المادة    
سبق أن أشرنا إِلَى أن البشرية كانت وتزال تخوض وتبحث في قضيتين مهمتين:
القضية الأولى: تتعلق بنشأة الكون وبأصله.
القضية الأخرى: قضية أصل الإِنسَان، وكيف وجد؟ وما هي وظيفته؟ مع أن التاريخ أمامهم بما فيه من آثار، وحفريات، وشواهد مكتوبة أو مرئية، ومع ذلك كله لم يصلوا إِلَى يقين، ولا إِلَى حقيقة، ولن يصلوا مطلقاً.

وإن وصلوا إِلَى شيء فقد جَاءَ به الوحي، وقدمه إليهم غضاً طرياً بلا عناءٍ ولا كلفةٍ ولا مشقة، يقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى:((مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً)) [الكهف:51]، فأخبر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أنه لم يشهد هَؤُلاءِ المضلين خلق السموات والأرض، فكل كلام يقولونه عن نشأة الكون، وعن كيفية خلق السماء والأرض، وعن تكون المجرات أو النجوم وما إِلَى ذلك، فهو كله افتراضات وتخمينات وظن.
وكذلك خلق أنفسهم، فلم يشهد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هَؤُلاءِ المضلين كيف خلق الإِنسَان، وكيف ابتدأه، وإنما أخبرنا الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أنه خلق آدم من الطين، ونفخ فيه من روحه ثُمَّ جعله بشراً سوياً، وجعل ذريته من سلالة من ماء مهين.
هذا هو الذي جَاءَ في كتاب الله، وفي سنة رسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكل خوض بعد ذلك عن أصل الإِنسَان، وما إِلَى ذلك، إما باطل لا حقيقة له بإطلاق، وإما خوض فيما لا نتيجة من وراءه ولا غاية ولا ثمرة.

وقد أغنانا الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وأعفانا عن البحث في أول خلق الأشياء، بأن نتفكر في خلق الكون، لنصل بذلك إِلَى معرفة الله وتوحيده، وإلى إفراد العبودية كلها له سبحانه، وإلى انتظار اليوم الآخر الذي يجمع الله تَعَالَى فيه الأولين والآخرين.
وهنالك يحاسبهم ويجازيهم عَلَى ما عملوا في هذه الحياة الدنيا، فالذين يضيعون أعمارهم في البحث عن أول نشأة الحياة، ثُمَّ يخرجون منها وهم لم يصلوا إِلَى يقين ولا إِلَى نتيجة في ذلك، نسوا الله فأنساهم أنفسهم، لماذا جاءوا.

ومن أعظم الأدلة عَلَى ذلك ما ترونه من اشتغال كثير ممن يسمَّون علماء الآثار، أو علماء التاريخ القديم، أو علماء الحفريات، حيث يقطعون الفيافي والقفار، ويجهدون أنفسهم، وينفقون الملايين في الحفر والتنقيب والبحث، لعلهم أن يجدوا أثراً من آثار الماضين، ثُمَّ هذا الأثر يقدر عمره بعشرة آلاف سنة، وهذا بخمسة عشر ألف، وهكذا تمضي أعمارهم.
فإذا خرجوا يوم القيامة من قبورهم، يسألهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- عن أعمارهم فيما أفنوها؟ مالكم وللقرون الأولى، فإن: ((عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى)) [طه:52]، وإنما عليكم أن تعتبروا بمصير هذه القرون، وتتعظوا بإهلاك الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لها، مع ما فيها من قوة الخلق، ومن الشدة والبطش.
وكان سبب إهلاكهم أنهم لما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم، كما تفرح كل أمة من الأمم بما عندها من الحضارة والثقافة، وبما عندها من الفن، وتقول: إن نُظُمنا وآدابنا وأخلاقنا وحضارتنا، تغنينا عن اتباع شرع الله، وعن الاقتداء بالأنبياء، فلسنا بحاجة إليهم أن يقولوا لنا: هذا حرام، وهذا حلال.
هذا نموذج من نماذج كثيرة، من الضياع والفراغ الذي يعيشه الإِنسَان بعيداً عن الوحي، مصدر اليقين والمعرفة، سواء ما أنزله الله تَعَالَى من كلامه، أو ما قاله رسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي لا ينطق عن الهوى.

فهذا الحديث العظيم، حديث عمران بن حصين -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- يبين لنا هذه الحقيقة، ويجب أن يعلم أن الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يتكلم ولم يخض في مسألة: هل هذا العالم خلق من مادة أو لم يخلق من مادة؟ ولم يجبهم عن أول المخلوقات بإطلاق، ولا عن بداية تأثير قدرة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وإنما سأله وفد اليمن عن هذا العالم المشهود الذي يرونه ويعيشون فيه، فأجابهم النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أول نشأته، وكيف خلقه الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- في جواب لا يمكن أن يهتدي إليه أو يعرفه أي إنسان عَلَى الإطلاق، إلا الأمين الذي يأتيه خبر السماء صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا غيره.
أما هَؤُلاءِ فليس عندهم إلا مقولات أرسطو وأفلاطون، وما يسمونهم بأصحاب الحضارات والعلوم القديمة، الذين يقولون: إن العلة الأولى خلق عشرة عقول ثُمَّ استراح، ولم يعد ينظر في الكون؛ لأنه كامل -كما يقولون- والكامل لا يفكر في الناقص، والعقول العشرة خلقت الأفلاك، والأفلاك خلقت السموات والأرض، وهذه مقولات نظرية ليس لها أي أساس من الصحة، ولا حتى في عقول الذين جاءوا بها.
وهكذا كل ما قالوه أو يقولونه غير هذه النظرية، فهو أبطل منها، أو هو الجهل المطلق قبل بعثة النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أما الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلأنه لا ينطق عن الهوى، وإنما بما يوحي إليه ربه، فأخبر كما في هذا الحديث بهذه الأمور الغيبية التي يتقاصر دونها علم البشر، كائناً من كان، وفي أي زمان أو مكان، ولن يصل الإِنسَان بإطلاق إِلَى أن يعرف هذه الحقائق أبداً.

وهذه المقدمة بين يدي الحديث، لنعلم أن أهميته تتجاوز قضية معرفة هل الأصح هو القول بأن الحوادث لها أول أم لا؟ بل لنعرف ما هو أكثر عبرة وأكثر عظة، خاصة ونحن نعيش في عصر تكاثرت فيه النظريات عن الكون، وعن الإِنسَان، وهذه النظريات لم تعد حديث أذهان الفلاسفة، كما كَانَ أرسطو وأفلاطون وأمثالهم، وإنما أصبحت مصورة ومقربة تدرس في مناهج التعليم، حتى في البلاد الإسلامية، وتقدم للناس عَلَى أنها حقائق وعلم، تحتوي عَلَى كيفية نشأة الكون والإِنسَان.
ولا يجوز لنا أن نستسلم لها، وأن نقررها ونلقنها أبناءنا، لأنها كلها خبط عشواء، وقول عَلَى الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بغير علم.