المادة    
والنَّاس يوم القيامة نوعان:
أ-نوع لم يأتهم نذير:كمن عاش في جزيرة نائية؛ أو في مكان لم تبلغهم الدعوة قط، فعدل الله -عَزَّ وَجَلَّ- ورحمته وحكمته اقتضت أن لا يعذبهم حتى يقيم عليهم الحجة؛ لأنهم لم يأتهم نذير، فيختبرهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- يوم القيامة؛ فإن أطاعوه أدخلهم الجنة، وإن عصوه أدخلهم النار، عَلَى القول الراجح.

2-نوع يقولونها افتراءً وكذباً، كما في الحديث الصحيح عندما يسأل الله قوم نوح ((وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ))[القصص:65] ماذا أجبتم نوح؟! هل جاءكم من نذير؟! لماذا أشركتم؟! فيجيب قوم نوح: ما جاءنا من نذير.
فيقول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: يا نوح ما صنعت بقومك؟ فَيَقُولُ: يا رب دعوتهم إِلَى ما أمرتني به. فيقول لقوم نوح: ما تقولون في قوله هذا فيقولون كذب، فيقول الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: يا نوح من يشهد لك؟ فيقول نوح: مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته، فيأتي رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته فيشهدون أن نوحاً قد بلّغ -ونحن والله نشهد أن نوحاً بلغ أمته- لأن كتاب الله بين أيدينا ينطق بذلك ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً))[البقرة:143] فنحن شهداء عَلَى الناس، ما من نبي تكذبه أمته يوم القيامة في البلاغ؛ إلا ونحن نشهد أنه قد بلغ؛ لأن الله أخبرنا بذلك في كتابه -الذكر المحفوظ - الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فاحتجاج الْمُشْرِكِينَ باطل ومردود بأعظم دليل وهو بعثة الرسل، فإن بعثة الرسل تبطل دعواهم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شاء لهم الكفر، أي: رضيه لهم.
وكذلك كل من فجر أو بغى أو عصى من هذه الأمة فقَالَ: لا أصلي؛ لأن الله لم يشأ لي الهداية، يرد عليه بما رد الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أن الله لو شاء ذلك بمعنى: أنه رضيه له، فلماذا شرع الحلال والحرام؟! ولماذا بعث نبينا صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! فحرم الزنا، وشرع عقوبة له، إما الجلد وإما الرجم، وشرع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل هذه الأمور لماذا تكون؟!
فلو أن الله رضي بالزنا -والعياذ بالله- فلماذا حرمه؟!.
إذن. لا يرضاه، فإنه تَعَالَى وإن كَانَ كتبه أو شاءه إلا أنه يبغضه ويسخطه ولا يرضاه، بل توعد صاحبه بالنَّار والجزاء الأشد، فلماذا تختار ذلك بمحض مشيئتك وإرادتك؟!
فأنت تعاقب عَلَى هذه المشيئة والإرادة، ولهذا فرق بين من جيء به مقيداً مغلولاً فأخذ مال إنسان أو قتل إنساناً دون أن يتعمد ذلك، وهو مقيد مغلول مقهور، وبين من يذهب إليها راضياً مطمئناً، فعندما يحتج هذا بأنه مجبور وأنه مقدر عليه؛ فكأنه يقول: أنا مكتَّف ومقيد ومرغم عَلَى أن أفعل هذا.
وإنما قالت القدرية ذلك لجهلهم وسوء استدلالهم، كما في قصيدة شَيْخ الإِسْلامِ التائية في الاحتجاج بالقدر التي شرحها الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى يقول: إن قول هَؤُلاءِ النَّاس كقول الذئب هذه طبيعتي، فلو جَاءَ ذئب وهجم عَلَى مزرعتك، وعبث في الغنم، ثُمَّ قتلته، فقيل لك: أتقتله وهذه طبيعته وهو هكذا خُلق يأكل الغنم؟ فلا شك أنك لن تقبل هذا الكلام، فالله خلقه ليأكل الغنم وهذا قدر الله، لكن أيضاً قدر الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن أعطاني أيضاً من الإرادة ما أحفظ بها غنمي، فأنا أرد القدر بالقدر.
فالواحد منهم لو أخذ الذئب غنمه لكان أشجع ما يكون حتى يقتله، وإذا ارتكب معاصي الله قَالَ: هذا قدر الله علينا، وهذه طبيعتنا، وكذا خلقنا.
وهذه الشبهات تنشأ من مرض القلب، وليست مبنية عَلَى هدى، فلذلك قال الله عَزَّ وَجَلَّ: ((قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا))[الأنعام:148].