يقول: "إذ الإنسان ظلوم جهول، والظلم والجهل أنواع؛ فيكون ظلم الأول وجهله من نوع -وهو ارتكاب المعاصي- وظلم كل من الثاني والثالث وجهلهما من نوع آخر" هذا لسكوته، وهذا لغلوه وتعديه في الإنكار على من سكت.
يقول رحمه الله: "ومن تدبر الفتن الواقعة، رأى سببها ذلك، ورأى أن ما وقع بين أمراء الأمة وعلمائها ومن دخل في ذلك من ملوكها ومشايخها ومن تبعهم من العامة من الفتن: هذا أصلها" هذا حال الأمة الإسلامية في جميع العصور، يقول: "يدخل في ذلك أسباب الضلال والغي التي هي الأهواء الدينية والشهوانية، وهي البدع في الدين والفجور في الدنيا؛ وذلك أن أسباب الضلال والغي: البدع في الدين، والفجور في الدنيا، وهي مشتركة، تعم بني آدم لما فيهم من الظلم والجهل" يبين هنا أن كلا نوعي الذنوب داخل في ذلك، ليس فقط ما يتعلق بالفواحش الظاهرة والشهوات بل حتى ما يتعلق بالشبهات؛ فإذا أحدث قوم بدعة، فذلك ذنب عظيم، فإذا سكت من يعلم أنه منكر، كان هذا ذنباً من نوع آخر، فإذا قام قوم ينكرون عليهم واعتدوا عليهم في الإنكار، كان هذا هو الذنب الثالث، ثم تكون الفتن في الأمة عامة.
ثم أخذ يفصل رحمه الله ذلك، فقال: "فبذنب بعض الناس يظلم نفسه وغيره: كالزنا واللواط وغيره، أو شرب خمر، أو ظلم في المال بخيانة أو سرقة أو غصب أو نحو ذلك، ومعلوم أن هذه المعاصي وإن كانت مستقبحة مذمومة في العقل والدين فهي مشتهاة أيضاً"، فالمعاصي الشهوانية -مع أنها مذمومة في الشرع والعقل- مشتهاة تميل إليها النفوس التي ضعف إيمانها.
يقول: "ومن شأن النفوس أنها لا تحب اختصاص غيرها بها، لكن تريد أن يحصل لها ما حصل له، وهذا هو الغبطة التي هي أدنى نوعي الحسد، فهي تريد الاستعلاء على الغير والاستئثار دونه، أو تحسده وتتمنى زوال النعمة عنه، وإن لم يحصل، ففيها من إرادة العلو والفساد والاستكبار والحسد ما مقتضاه أنها تختص عن غيرها بالشهوات، فكيف إذا رأت الغير قد استأثر عليها بذلك، واختص بها دونها؟! فالمعتدل منهم في ذلك الذي يحب الاشتراك والتساوي، وأما الآخر فظلوم حسود.
وهذان يقعان في الأمور المباحة والأمور المحرمة لحق الله، فما كان جنسه مباحاً من أكل وشرب ونكاح ولباس وركوب وأموال؛ إذا وقع فيها الاختصاص حصل الظلم والبخل والحسد، وأصلها الشح، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إياكم والشح، فإنه أهلك من كان قبلكم؛ أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا}" والدافع هو حب الاستئثار بهذه الشهوة.
وقد يقع العكس، فإن أهل المعاصي حين سرقوا من بيت المال وارتكبوا الفواحش، ازدراهم الناس، فسعوا إلى أن يعمموا ذلك الشر على جميع الناس.
ولو سألت شخصاً: لماذا ترتشي؟ فسوف يقول: المدير الفلاني يرتشي، وفلان يرتشي، ثم يسعى لأن يعمم ذلك خروجاً من ازدراء الناس له، وكذلك شارب الخمر يجتهد في أن ينشر الخمر حتى يعمم، فلا يعود مختصاً بذم الناس ونقدهم.
ثم ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أقسام الذنوب فقال: "ولهذا كانت الذنوب ثلاثة أقسام: أحدها: ما فيه ظلم للناس، كالظلم بأخذ الأموال ومنع الحقوق. والثاني: ما فيه ظلم للنفس فقط، كشرب الخمر والزنا إذا لم يتعد ضررهما. والثالث: ما يجتمع فيه الأمران، مثل أن يأخذ المتولي أموال الناس يزني بها ويشرب بها الخمر ومثل أن يزني بمن يرفعه على الناس بذلك السبب ويضرهم؛ كما يقع ممن يجب بعض النساء والصبيان -فاجتمع فيه- الأمران: الظلم للناس بأخذ أموالهم، والظلم للنفس بتعاطي ما حرم الله، وقد قال تعالى: (( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ))[الأعراف:33] وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل -الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم- أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة".