المادة    
يقول رحمه الله: "وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب الشر والعدوان، فقد يذنب الرجل أو الطائفة، ويسكت آخرون عن الأمر والنهي، فيكون ذلك من ذنوبهم، وينكر عليهم آخرون إنكاراً منهياً عنه، فيكون ذلك من ذنوبهم، فيحصل التفرق والاختلاف والشر، وهذا من أعظم الفتن والشرور قديماً وحديثاً" قال الله: ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ))[المائدة:78-79] هذا ذنب من سكت ممن كان يجب عليه أن يأمر وينهى، فتأتي طائفة ثالثة، فتذنب وتنكر على الساكتين إنكاراً في غير محله، وتلومهم وتطعن فيهم طعناً في غير موضعه، فيكون الذنب الثالث من الطائفة الثالثة، فتحصل بتلك الذنوب الفتن، وهذا في كل العصور.
ففي القرن الأول أحدث أمراء الظلم والجور الفساد في الأرض، كما حدث من الحجاج، ومن عبيد الله بن زياد وأمثالهم ممن ظلموا وجاروا، وسكت كثير من الناس بعذر وبغير عذر، والأمة في جملتها تؤاخذ بالسكوت على المنكر، وإن كان بعض أفرادها قد يعذر بما يسقط عنه الذنب.
وأعظم المؤاخذين على ظلم الحجاج عبد الملك بن مروان وأبناؤه الذين أطلقوا له اليد في ذلك، فأذنبت طائفة ثالثة -وهم الخوارج- بإيذائهم من سكت، فأتوا إلى الحسن البصري وأبي مجلز وغيرهم من التابعين، وقالوا لهم: أنتم لا تنهون ولا تأمرون، فلاموهم وعنفوهم، وغلظوا عليهم بما لا يحق لهم أن يقولوه.
وقد ضرب الشعبي رحمه الله -وكان رجلاً حكيماً- مثلاً للخوارج فقال: "مثل هؤلاء القوم كمثل ثلاثة إخوة؛ مات أبوهم وترك مالاً، فجاء الأخ الأكبر، فأخذ المال كله، وظلم أخويه، فجاء الأوسط وقال للأصغر: قم معي فلنقاتل هذا، ولنأخذ حقنا منه، فأبى الأصغر لأنه لا يطيق؛ فعدا عليه فقتله" فضاع الأصغر والأوسط، وظلم الأكبر.
فهكذا حال الناس إن لم يفقهوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، والأخ الأكبر يقصد به الشعبي الحكام الذين ظلموا الناس وأخذوا أموالهم، وفعلوا ما يوجب الإنكار عليهم، فجاء أهل العنف -وهم الأخ الأوسط- كـالخوارج، وقالوا للعوام: تعالوا معنا ننكر عليهم، فأبى عليهم عامة الناس، فقاموا يقاتلونهم، وقالوا لهم: أنتم كفار مرتدون لأنكم راضون بالكفر، فبقي ظلم الأكبر وضاع الأوسط والأصغر، ولأجل ذلك ضاعت الأمة كلها.
  1. معركة الدعاة ليست مع العلماء والعوام

  2. تدخل شهوة النفس وهواها في إنكار المنكر