ثم يذكر ابن القيم كلاماً عجيباً يدل على علمه واطلاعه وإحاطته بالفكر العالمي، كما كان شيخه شيخ الإسلام رحمهما الله، فقد ذكر تاريخهم وتطورهم، مبيناً المتقدم منهم والمتأخر، والاختلاف الذي وقع بينهم، وهذا شيء عجيب!
قد نقول: إن معرفة التاريخ في الوقت الحاضر أمر سهل، لكن قديماً كيف كانوا يعرفون؟!
يقول ابن القيم : "وكذلك كان أساطينهم ومتقدموهم، العارفون فيهم -يعني من الفلاسفة- معظمين للرسل والشرائع، موجبين لاتِّباعهم، خاضعين لأقوالهم، معترفين بأن ما جاءوا به طور آخر وراء طور العقل"، أي: شيء لا يمكن للعقل أن يصل إليه.. "وأن عقول الرسل وحكمتهم فوق عقول العالمين وحكمتهم"، وهو -تقريباً- نفس الاتجاه الذي أيده ابن رشد . قال: "وكانوا لا يتكلمون في الإلهيات" أي: أن الفلاسفة القدماء قبل أرسطو كانوا لا يتكلمون في الإلهيات -وإن كان نسب إليهم كلام بعد ذلك- "ويسلمون باب الكلام فيها إلى الرسل، ويقولون: علومنا إنما هي الرياضيات والطبيعيات وتوابعها"، فما ضرهم لو بقي الأمر على هذا النحو؟! ولذلك فإن أخطر قضية فكرية في العالم، أن الفلاسفة خرجوا من الكلام في العلوم الطبيعية والرياضية، وخاضوا في وجود العالم وفي قدمه، وفي نشأة الكون والحياة، فكفروا وأكفروا الناس، ولو أنهم اقتصروا على هذه العلوم لما كان هناك تعارض، فنقول لهم: اتركوا ما يتعلق بالإله وباليوم الآخر وبالغيب، ودعوه للرسل وللكتب، أما الطبيعيات والتجارب التي أمركم الله تعالى أن تبحثوا فيها، فلا بأس من الخوض فيها، فسيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق، وانظروا ماذا في السماوات والأرض، لكن لا تتجاوزوا الكلام في أمور الغيب، ولو بقيت الأمور هكذا لما شهدت أوروبا -ولا العالم الذي أصبح كله تابعاً لها الآن مع الأسف- هذا الصراع الفكري، والعداوة بين العلم والدين، ولو ظلوا يبحثون في موضوع الطبيعيات والرياضيات، كما كان فيثاغورس وأرشميدس وغيرهم ممن كان باحثاً في هذه العلوم، وترك باب الإلهيات؛ لكان هذا أسلم.