ثم يقول
ابن القيم : "وأصح الطوائف حكمةً من كانت حكمتهم أقرب إلى حكمة الرسل"، فهناك أمم كثيرة تدعي الحكمة، ولهم أشعار وأخبار وأقوال وكتب في الحكمة، مثل كتاب:
كليلة ودمنة - الذي وضعه الحكيم
بيدبا وترجمه
ابن المقفع، و
بيدبا حكيم هندي قديم، وضع هذا الكتاب على لسان الطير؛ ليبين كيف يعيش الإنسان.. وكيف يتعامل.. وكيف تكون نتيجة المراوغة والخيانة، ونتيجة الصدق والكذب.. فهذه كلها من الحكمة؛ لأن فيها عبراً.
ولا توجد هناك أمة ليس لها دين ولا إيمان ولا كتب؛ لأن حياة الناس لا تقوم إلا بشيء من ذلك، ولا يمكن أن تقوم حياة الناس بالفوضى، وإنما بشيء مما يضبط أمور الناس، ولهذا فإن الأمم التي ليس لديها كتاب ولا رسول تستفيد بمثل هؤلاء الحكماء؛ لأنها تعيش في ظلام دامس، والنبوة نور، فمن أشرقت عليه شمس الرسالة مشى في النور، ومن عاش دون رسالة فإنه في ظلام، لكن قد توجد في الظلام بعض العلامات من جذوع أشجار وأحجار، ربما يتلمسها الإنسان فيعيش شيئاً ما من الحياة في هذا الظلام، وهو أفضل من أن يعيش في ظلام ليس فيه أيُّ علامة.
وهذا التشبيه هو الذي يمكن أن نصف به مثل هذه العلوم المتمثلة في حكمة
الهند وحكمة
اليونان، ومن حكمائهم:
طاغور الشاعر الهندي المتأخر، الذي كان له حكم يقولها كثيراً، وفيها عبر، ومنهم:
تولستوي، وهو حكيم روسي له حكم كثيرة قبل الثورة الشيوعية، ويقال: إنه أسلم، والله أعلم. ففي كل أمة يوجد حكماء يحاولون أن يعرفوها ضرورة استعمال العقل، وأن الخيانة لا خير فيها، وأن الصدق ضروري.. وهكذا، وكل أمة تسميهم: حكماء، وتفخر بانتمائهم إليها.
إلا أن أعلى وأرقى وأفضل أنواع هذه الحكمة هي ما كان موافقاً لحكمة الأنبياء أو قريباً منها، فبقدر قربها مما جاءت به الرسل تكون درجتها في السمو، وبقدر بعدها تكون درجتها في السفول والعياذ بالله! وقد سمى الله سبحانه وتعالى ما أعطى الرسل حكمة؛ فهم أعظم الحكماء على الإطلاق، يقول
ابن القيم رحمه الله مستدلاً لذلك: "قال الله تعالى عن نبيه داود: ((
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ))[ص:20]، وقال المسيح عليه السلام: ((
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ))[آل عمران:48].."، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ورد الكثير من الآيات في وصف ما جاء به صلى الله عليه وسلم بالحكمة، ومن ذلك ما ذكره الله سبحانه وتعالى في حق أمهات المؤمنين: ((
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا))[الأحزاب:34]. وقد جاءنا النبي صلى الله عليه وسلم بأمرين: بالآيات التي أنزلها الله عليه، وهي هذا القرآن، وبالحكمة التي أنطقه الله تبارك وتعالى بها، وهي الوحي الآخر، قال صلى الله عليه وسلم:
{وإني أوتيت القرآن ومثله معه}.