ثم قال رحمه الله: "والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم، وهو: العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه، قال أبو عبيدة في قوله تعالى: (اسْتَوَى) قال: (علا)، قال: وتقول العرب: استويت فوق الدابة، واستويت فوق البيت، وقال غيره: (استوى)، أي: انتهى شبابه واستقر ولم يكن في شبابه مزيد".
قال الحافظ أبو عمر : "الاستواء: الاستقرار في العلو، وبهذا خاطبنا الله عز وجل وقال: ((لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ))[الزخرف:13]، وقال: ((وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ))[هود:44]، وقال: ((فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ))[المؤمنون:28] وقال الشاعر:
فأوردتهم ماءً بفيفاء قفرة            وقد حلق النجم اليماني فاستوى "
والنجم اليماني هو الشعرى اليمانية، وهي من أكبر النجوم.
قال: "وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد بـ(استولى)؛ لأن النجم لا يستولي.
وقد ذكر النضر بن شميل وكان ثقة مأموناً جليلاً في علم الديانة واللغة، قال: حدثني الخليل -وحسبك بـالخليل - قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم من رأيت" وهذه طرفة من طرف الأعراب، وقد كان هؤلاء الرواة -كـالأصمعي والخليل والنضر وحماد وخلف - يذهبون إلى البادية للقاء الأعراب، من أجل أن يأخذوا عنهم اللغة ويدونوها، وكان الأعراب يملون منهم، فإن الأعرابي يأتي بالشاة والناقة ليبيعها في سوق البصرة والكوفة، ثم يعود إلى الصحراء، فيتلقفه أولئك اللغويون عند الأبواب ويسألونه: ما تقولون في كذا؟ وما جمع كذا؟ وما تثنية كذا؟ وكانوا يجيبونهم على البديهة من غير تفكير ولا روية؛ لأنها لغتهم التي تعودوا أن ينطقوا بها؛ لكنهم كانوا يضجرون من هؤلاء اللغويين الذين يترصدونهم، فهم لا يهمهم أمر لغتهم، ولا يريدون أن يقطع عليهم أمورهم أولئك اللغويون.
يقول: فكان هذا الأعرابي من أعلم من رأيت، وقال: "فإذا هو على سطح، فسلمنا فرد علينا السلام، وقال لنا: استووا، فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال، قال: فقال لنا أعرابي إلى جنبه: إنه أمركم أن ترتفعوا، قال الخليل : هو من قول الله عز وجل: ((ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ))[فصلت:11]".
فانظر كيف يصدق قول أهل اللغة ما يفقهه أهل الإيمان والدين والأمانة! فـالخليل يقول: قول الأعرابي لنا: استووا (أي: ارتفعوا) هو من قوله تعالى: ((ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ))[فصلت:11] بمعنى: ارتفع.
قال: "فصعدنا إليه، فقال: هل لكم في خبز فطير، ولبن هجير، وماء نمير؟! فقلنا: الساعة فارقناه" أي: الطعام؛ فكأنهم يقولون له: إننا نريد شيئاً غير الطعام "فقال: سلاماً! فلم ندر ما قال، فقال الأعرابي: إنه سالمكم متاركة لا خير فيها ولا شر؛ قال الخليل : هو من قوله عز وجل: ((وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا))[الفرقان:63]" أي: لسنا راضين عما تفعلون، ولكننا لن نتكلم، فإذا جاء إليك إنسان يسبك ويشتمك ويؤذيك، فقلت له: سلاماً، فمعنى ذلك أنك لست براضٍ عما يقول؛ لأنه يسبك ويشتمك بما ليس فيك، لكن مع ذلك لن ترد ولن تقول شراً، فالأعرابي يقول لهم: أنا لا أريدكم، ولكن لن أسيء إليكم، فهي متاركة لا خير فيها ولا شر.
ثم ذكر ابن عبد البر رحمه الله ما استدل به أهل البدع من أحاديث وآثار لا تثبت، ثم قال بعد ذلك: "أما سمعوا قول الله عز وجل حيث يقول: ((وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا))[غافر:36-37] فدل على أن موسى عليه السلام كان يقول: إلهي في السماء، وفرعون يظنه كاذباً.
فسبحان من لا يقدر الخلق قدره            ومن هو فوق العرش فرد موحـد
مليك على عرش السماء مهيمن            لعزته تعنـو الوجوه وتسـجد
وهذا الشعر لـأمية بن أبي الصلت، وفيه يقول في وصف الملائكة:
فمن حامل إحدى قوائم عرشه             ولولا إله الخلق كلوا وأبلدوا
قيام على الأقدام عانون تحته            فرائصهم من شدة الخوف ترعد "
فقوله: (فسبحان من لا يقدر الخلق قدره) يوضحها قوله تعالى: ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ))[الأنعام:91] فالخلق لا يستطيعون أن يقدروا الله حق قدره ولا أن يثنوا عليه كما يستحق سبحانه وتعالى بل هو كما أثنى على نفسه.
(ومن هو فوق العرش فرد موحد) أي: واحد أحد .
مليك على عرش السماء مهيمن            لعزته تعنـو الوجوه وتسـجد
(تعنو): أي تخضع وتنحني الرءوس والوجوه وتسجد له سبحانه.
فهذا الرجل الذي آمن لسانه وكفر قلبه يقول في وصف الملائكة:
فمن حامل إحدى قوائم عرشه             ولولا إله الخلق كلوا وأبلدوا
قيام على الأقدام عانون تحته                        فرائصهم من شدة الخوف ترعد
وهكذا حال الملائكة الكرام؛ لأنهم يخافون ربهم من فوقهم، وهذا الكلام كأنه مأخوذ من القرآن، وربما أخذه أمية من علم أهل الكتاب، وهو من الحق الذي تتطابق فيه دعوات الرسل وكتب الله تبارك وتعالى المتتالية.