يذكر
ابن القيم أنواع الأدوية من الكتاب والسنة لعلاج القلب من الهم والغم والحزن (ص:200) فيقول:
"هذه الأدوية تتضمن خمسة عشر نوعاً من الدواء؛ فإن لم تقو على إذهاب داء الهم والغم والحزن، فهو داء قد استحكم، وتمكنت أسبابه، ويحتاج إلى استفراغ كلي:
الأول: توحيد الربوبية.
الثاني: توحيد الإلهية.
الثالث: التوحيد العلمي الاعتقادي.
الرابع: تنزيه الرب تعالى عن أن يظلم عبده، أو يأخذه بلا سبب من العبد يوجب ذلك.
الخامس: اعتراف العبد بأنه هو الظالم.
السادس: التوسل إلى الرب تعالى بأحب الأشياء، وهو أسماؤه وصفاته، ومن أجمعها لمعاني الأسماء والصفات: الحي القيوم.
السابع: الاستعانة به وحده.
الثامن: إقرار العبد له بالرجاء.
التاسع: تحقيق التوكل عليه، والتفويض إليه، والاعتراف له بأن ناصيته في يده، يصرفه كيف يشاء، وأنه ماض فيه حكمه عدل فيه قضاؤه.
العاشر: أن يرتع قلبه في رياض القرآن، ويجعله لقلبه كالربيع للحيوان، وأن يستضيء به في ظلمات الشبهات والشهوات، وأن يتسلى به عن كل فائت، ويتعزى به عن كل مصيبة، ويستشفي به من أدواء صدره، فيكون جلاء حزنه، وشفاء همه وغمه.
الحادي عشر: الاستغفار.
الثاني عشر: التوبة.
الثالث عشر: الجهاد.
الرابع عشر: الصلاة.
الخامس عشر: البراءة من الحول والقوة وتفويضهما إلى من هما بيده" هذه المجموعة من الأدوية ملخص ما ورد من أنواع الأدوية التي جاءت في الكتاب والسنة.
وذكر قبل ذلك بعض الأحاديث: وأولها: دعاء الكرب الذي رواه الشيخان عن
ابن عباس رضي الله عنهما: {
لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات السبع ورب الأرض ورب العرش الكريم}.
ثم يقول
ابن القيم رحمه الله (ص:201) في بيان جهة تأثير هذه الأدوية في هذه الأمراض: "خلق الله سبحانه وتعالى ابن آدم وأعضاءه، وجعل لكل عضو منها كمالاً، إذا فقده أحس بالألم، وجعل لملكها -وهو القلب- كمالاً، إذا فقده حضرته أسقامه وآلامه من الهموم والغموم والأحزان"، ولهذا لا تجد فاجراً ولا فاسقاً ولا عاصياً ولا كافراً إلا مهموماً حزيناً مهما كان، ولا تنظر إلى القشرة الخارجية؛ لا تنظر إلى المراكب الفاخرة، ولا إلى القصور الشاهقة، ولا إلى ناطحات السحاب، ولا إلى الممتلكات مهما كانت؛ فإن الله يقول: ((
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى))[طه:124] فهو مهموم مغموم يعيش في ضنك، ولهذا نجد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يركب الواحد منهم الناقة في شدة الحر من
مكة إلى
المدينة وليس له زاد إلا التمر، وكسرات جافة من الخبز، وليس سفره سفراً محضاً؛ بل هو سفر من أجل الجهاد أو طلب العلم، فكانوا مع ذلك أقوياء سعداء، بل كانوا يتلذذون بما يجدونه من مصاعب ومشاق وآلام، وقد قال
ابن القيم في موضع آخر: إن الإنسان إذا أصابته مصيبة تضرع واستغاث، ودعا الله، وانكسر بين يدي الله سبحانه وتعالى، فيجد من لذة تلك المناجاة وحلاوتها ما ينسيه أذى المصيبة وألمها وضررها.
يقول
ابن القيم رحمه الله: "فإذا فقدت العين ما خلقت له من قوة الإبصار، وفقدت الأذن ما خلقت له من قوة السمع، واللسان ما خلق له من قوة الكلام، فقدت كمالها، والقلب خلق لمعرفة فاطره ومحبته وتوحيده، والسرور به، والابتهاج بحبه، والرضى عنه، والتوكل عليه، والحب فيه، والبغض فيه، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، ودوام ذكره، وأن يكون أحب إليه من كل ما سواه، وأرجى عنده من كل ما سواه، وأجل في قلبه من كل ما سواه، ولا نعيم له ولا سرور ولا لذة -بل ولا حياة إلا بذلك- وهذا له بمنزلة الغذاء والصحة والحياة، فإذا فقد غذاءه وصحته وحياته، فالهموم والغموم والأحزان مسارعة من كل صوب إليه، ورهن مقيم عليه.
ومن أعظم أدوائه -أي من أعظم أدواء القلب- الشرك، والذنوب، والغفلة، والاستهانة بمحابه ومراضيه، وترك التفويض إليه، وقلة الاعتماد عليه، والركون إلى ما سواه، والسخط بمقدوره، والشك في وعده ووعيده.
وإذا تأملت أمراض القلب، وجدت هذه الأمور وأمثالها هي أسبابها، لا سبب لها سواها"... إلى أن قال: "قال بعض المتقدمين من أئمة الطب: من أراد عافية الجسم؛ فليقلل من الطعام والشراب، ومن أراد عافية القلب؛ فليترك الآثام -الذنوب والمعاصي- وقال
ثابت بن قرة: راحة الجسم في قلة الطعام، وراحة الروح في قلة الآثام، وراحة اللسان في قلة الكلام.
والذنوب للقلب بمنزلة السموم؛ إن لم تهلكه أضعفته ولابد، وإذا ضعفت قوته لم يقدر على مقاومة الأمراض.
قال طبيب القلوب عبد الله بن المبارك رحمه الله:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
فالهوى أكبر أدوائها، ومخالفته أعظم أدويتها، والنفس في الأصل خلقت جاهلة ظالمة" كما قال تعالى: ((إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا))[الأحزاب:72] ولهذا لا تعرف طريق التداوي الحقيقي لأنها تجهله، أو تضع الدواء في غير موضعه، وهذا هو الظلم، قال: "فهي لجهلها تظن شفاءها في اتباع هواها، وإنما فيه تلفها وعطبها، ولظلمها لا تقبل من الطبيب الناصح، بل تضع الداء موضع الدواء فتعتمده، وتضع الدواء موضع الداء فتجتنبه، فيتولد من بين إيثارها للداء واجتنابها للدواء أنواع من الأسقام والعلل التي تعيي الأطباء، ويتعذر معها الشفاء".