يقول المصنف رحمه الله: [بل انقادت وسلمت وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفت، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وتسليمها على معرفته]، فإذا عرفنا شيئاً من حكمة الله، فالحمد لله، ونزداد إيماناً، وما لم نعرفه وخفي علينا، فلا نتوقف في العمل به حتى نعرف الحكمة، بل نعمل، وكذلك في أفعال الله سبحانه وتعالى، فليس لنا إلا الرضا والتسليم، فلا نعترض بأي حال من الأحوال، فإن الله لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
يقول: [ولا جعلت ذلك من شأنها، وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك؛ كما في الإنجيل: يا بني إسرائيل! لا تقولوا: لم أمر ربنا؟ ولكن قولوا: بم أمر ربنا؟]، وهذا من أخبار بني إسرائيل، وليس هو للاستشهاد أو الاعتماد، وإنما هو على سبيل الاستئناس، والأخبار المروية عن بني إسرائيل -مما هو حق في ديننا- تذكر وتنقل، لا للاعتماد والاحتجاج، لكن للاستئناس، كما يذكر المثل من كلام العرب، أو الحكمة من حكم الحكماء، أو القول من أقوال البلغاء.
ثم قال المصنف: [ولهذا كان سلف هذه الأمة التي هي أكمل الأمم عقولاً ومعارف وعلوماً، لا تسأل نبيها: لم أمر الله بكذا؟]
فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم لم يقولوا: لم حرم الله الخمر؟ بل عندما نادى المنادي: إن الله حرم الخمر، جرت بها الأزقة في المدينة .. فقد كانوا محققين لعبودية الله سبحانه وتعالى، وليس الحال كحال ضعاف الإيمان في آخر الزمان؛ إذا قيل له: حرم الله سبحانه وتعالى الاختلاط بين الرجال والنساء، قال: الواقع قد تبدل وتغير، ونحن نريد أن نوفق بين العصر وبين مطالب ديننا، ونوفق بين شريعتنا وبين التحضر.
سبحان الله! هذا هو الذي أخبر الله سبحانه وتعالى به عن المنافقين أنهم: ((يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا))[النساء:62]، فإنهم قالوا: نريد أن نوفق بين حكم محمد صلى الله عليه وسلم وبين حكم كعب، أو حكم قاضي جهينة على الرواية الأخرى في سبب نزول قوله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا))[النساء:60].
فدعوى التوفيق والإحسان مهما كانت فهي من دعاوى المنافقين ولهذا لم يسأل الصحابة رضي الله تعالى عنهم النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً.
يقول الشعبي رضي الله عنه ورحمه: [[لو أن القرآن أنزل على هؤلاء -يعني الناس في عصره- لكان عامته: (ويسألونك)]]، مع العلم أن الشعبي من التابعين، أي: لو كان هؤلاء الناس في عصر التنزيل لكان عامة ما في القرآن من الآيات (ويسألونك)؛ لكثرة أسئلتهم.
وإن الناظر في كتاب الله عز وجل يجد بضعة من المواضع جاء فيها (يسألونك)، وبعضها للصحابة، وبعضها للكفار، فعلينا أن ننظر كيف كان أدب الصحابة وأدب المؤمنين مع ربهم ومع نبيهم صلى الله عليه وسلم، وأنهم لا يعترضون.. بل لا يناقشون ولا يبحثون؛ إنما يذعنون ويسلمون تسليماً مطلقاً، من غير ممانعة ولا معارضة ولا مدافعة ولا منازعة.
وقد قال المصنف رحمه الله: "ولهذا كان سلف هذه الأمة، التي هي أكمل الأمم عقولاً ومعارف وعلوماً"، فالجملة الاعتراضية هنا "التي هي أكمل الأمم..." لها حكمة، وذلك أن الذين يردون الدين يجنحون للتعلل بالعقل وبالعلم وبالمعرفة وبالفكر وبالتأمل، ولم يوجد -ولن يوجد- في أي جيل من الأجيال أكمل من الصحابة عقولاً ومعارف وعلوماً، ومع ذلك كان موقفهم الاستسلام والانقياد والإذعان، ولم يقولوا: لم أمر الله بكذا؟ ولماذا نهى عن كذا؟ ولم قدر كذا؟ ولم فعل كذا؟.. يقول المصنف: "لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام، وأن قدم الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم"، فمن كلمة (الإسلام) نعرف معنى الدين وما حقيقته، فكلمة (الإسلام) تعنى: الاستسلام والانقياد والخضوع لله سبحانه وتعالى من غير اعتراض؛ فمن أبى واعترض، فهذا غير مسلم، وإن زعم ذلك.