ومسألة التعليل مرتبطة بمسألة القدر، وقد وردت في آخر مبحث القدر فهي مرتبطة به؛ لأن الذين ينفون الحكمة عن أفعال الله سبحانه وتعالى -كـالجهمية والأشعرية- مذهبهم في القدر هو الجبر، على تفاوت بينهم، فهم يقولون: إن الله سبحانه وتعالى هو الذي يفعل والعباد ليس لهم شأن، ويظنون أنهم يثبتون فعل الله، لكنهم في الحقيقة ينفون إرادة الإنسان ومسئوليته، وكذلك ينفون الحكمة والتعليل في أفعال الله سبحانه وتعالى. ويقولون: إن الله سبحانه وتعالى، يفعل بمحض الإرادة والمشيئة لا لحكمة ولا لعلة.
مثال ذلك:
قالوا: لو أن الله سبحانه وتعالى شاء -ويمكن أن يشاء- أن يدخل أعظم الناس إيماناً النار، وأن يدخل إبليس -ومن مثله في الكفر- الجنة، لجاز ذلك؛ لأن مشيئته نافذة.
فنقول لهم: لا يمكن هذا، فإن الله سبحانه وتعالى جعل لكل شيء أسباباً وحكماً، وحكمة الله تنافي ذلك، فيجيبون بقولهم: نحن لا نعلل؛ فإن المسألة مجرد مشيئة!
فبهذا المثال يعرف الفرق الكبير بين مذهب أهل السنة وبين مذهب هؤلاء الجهمية والأشعرية؛ فـالجهمية والأشعرية يرون أن الله يفعل لمجرد المشيئة فحسب، فلو شاء لعذب المؤمنين ونعَّم الكافرين، ولو شاء لفعل العكس، لكن المؤمنين -الذين هم على مذهب أهل السنة والجماعة، ويعلمون صفات الله سبحانه وتعالى كما أمر- يقولون: لا يمكن ذلك، ولا يفعل الله ذلك؛ لأنه أخبرنا بخلافه، وحكمته سبحانه وتعالى ظاهرة فيما دون ذلك من الأمور والأفعال والأحكام، فلو قال قائل: يجوز أن يعذب الله المؤمنين وينعم الكافرين، لقلنا له: لا يجوز ذلك، ومن قال ذلك فقد افترى على الله سبحانه وتعالى، فإن قال: إنه يقول: ((لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ))[الأنبياء:23] قلنا: حقاً، إنه تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولكن أيضاً له حكمة، وقد قال: ((وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ))[الزخرف:84].. ((وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ))[الأنعام:18].. ((وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))[إبراهيم:4].. ((أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ))[هود:45]، وآيات كثيرة جداً فيها إثبات أنه سبحانه وتعالى حكيم، والحكيم هو الذي يضع الشيء في موضعه، فهو يتصرف بما لا يخالف مقتضى حكمته، ويفعل مقتضى الحق والصواب في ذلك، فلو أن أحد البشر أساء إلى محسن وأحسن إلى مسيء -ولو كان الإحسان إلى المسيء باباً آخر- لكانت الإساءة إلى المحسن لا تليق، فإذا كان ذلك لا يليق بحكمة البشر، فكيف بحكمة أحكم الحاكمين سبحانه وتعالى؟!
ومن ذلك نعرف أن أفعال الله سبحانه وتعالى معللة، وأحكامه الشرعية أيضاً معللة، ولعل في هذا القدر كفاية، يتبين بها الفرق بين المذهبين.