ومن ظن أن الآيات والأحاديث فيها معان فاسدة كفرية باطلة في حق الله عَزَّ وَجَلَّ، وأنها لا بد أن تؤول وأن تخرج عَلَى معاني لغوية، ليستقيم وصف الله تَعَالَى بها، فهذا من فساد عقله وفهمه، ولهذا استشهد المُصنِّف بالبيت الذي قاله المتنبي:
وكم من عائب قولاً صحيحاً            وآفته من الفهم السقيم
والمتنبي شاعر مشهور وهو في هذا البيت يعتز بنفسه كما هي عادة الشعراء فهو يقول للذين يعيبون عليه شعره :-
وكم من عائب قولاً صحيحاً            وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الأفهام منه            على قدر القرائح والعلوم
يقول: أنا أقول كلاماً ولا يفهمه كثير من الناس، لكن يجب عليهم أن يفهموا من كلامي عَلَى قدر عقولهم، وتبقى هناك معاني لا يفهمها الناس، سُبْحانَ اللَّه! هذا الوصف لا يصح أن يقال إلا في القُرْآن أو في الحديث، الذي فيه من الحكم والعبر ما تعجز عنه العقول، أما شعر شاعر لا نأخذ منه إلا عَلَى قدر عقولنا، والباقي عميق لا يفهمه النقاد، ولا حتى ابن جني، ولا حتى النقاد الكبار، الذين انتقدوا المتنبي؟! فهذا من الاعتداد والفخر الكاذب، فأولى بهذا الوصف أن يكون لكلام الله عَزَّ وَجَلَّ وأنه:
وكم من عائب قولاً صحيحاً            وآفته من الفهم السقيم
مثل ما تروى أحاديث القدر، كحديث عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ {إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة..} قيل: للبدعي أتتهم رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: لا، أتتهم ابن مسعود؟ قَالَ: لا، أتتهم أبا وائل؟ قَالَ: نعم، في رواية قَالَ: اتهم من بعده.
فهو لا يستطيع أن يتهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخاف كذلك أن يتهم الصحابي فقَالَ: أتهم الذي رواه من التابعين أو أتباع التابعين، فيقال له: أنت لم تفهم الحديث.
وهَؤُلاءِ النَّاس لو كانوا منصفين أو عَلَى الحقيقة لاتهموا عقولهم، فالنقلة الحفاظ الأثبات نقلوا الكلام بحق، وليسوا بمتهمين فيه، والصحابة والعلماء أجل النَّاس وأعظمهم فهماً وقد فهموا هذه النصوص بلا تعارض، إذاً فالمتهم هو عقول هَؤُلاءِ.
وكم من عائب قولاً صحيحاً            وآفته من الفهم السقيم
ولو اتهموا عقولهم لما اتهموا أحداً من السلف، ولا من الرواة النقلة، كما فعل الرازي في أساس التقديس عندما اتهم أكثر الرواة حتى الشيخين، بل حتى أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال البحتري:
عليَّ نحت القوافي من معادنها            وما عليَّ إذا لم تفهم البقر
النقاد ينتقدون شعره فَيَقُولُ: أنا علي أن آتي بالقوافي من معادنها الأصلية والمعاني الجزلة البليغة، وما علي إذا لم تفهم البقر، وكأن الذين لا يفهمون شعره من البقر، فإذا كَانَ هذا ما قاله شاعر أو آخر في كلامه، فكلام الله عَزَّ وَجَلَّ كما قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
[فكيف يقال في قول الله، الذي هو أصدق الكلام، وأحسن الحديث] كما قال ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان يكرره في خطبه الثابتة المشهورة [وهو الكتاب الذي ((أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)) [هود:1]] اهـ.
فإن الأفهام تعجز عن إدراك حقيقته، والعيب ليس فيه، ولكن في الذين لا يفهمونه، وحاشاه من العيوب.