والقول الذي يختار ويرجح، والذي تظهر حكمته وفائدته جلية إن شاء الله، هو أن نقول: إن هذه الحروف ذكرها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في أوائل السور، وكأنه يقول: إن القُرْآن يتركب من هذه الحروف، فهل تستطيعون أن تأتوا بمثله -لن تستطيعوا أن تأتوا بمثله- فآمنوا به، فإنكم لن تأتوا بمثله أبداً، ويرجح هذا القول: أن هذه السور التي وردت فيها هذه الحروف المقطعة عددها تسع وعشرون سورة، وأنها تشتمل عَلَى ما يدل عَلَى أن القُرْآن من عند الله، وينفي أقوال الْمُشْرِكِينَ بأنه مفترى، وتأتي فيها الإشارة إِلَى هذا القرآن، عقب ذكر هذه الحروف المقطعة، وهذا مما هو معلوم عند الجميع.
مثلاً: ((الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ)) [البقرة:1, 2] ((آلم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ)) [آل عمران:1-3]. ((يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ))[يّـس:1، 2] ((حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)) [غافر:1، 2] ((حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ)) [الدخان:1، 2] ((ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ))[صّ:1] ((ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ)) [قّ:1].
فلو تأملنا لوجدنا أن هذا المعنى ظاهر، وهو أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يأتي بما يدل في السورة -ولكن غالبها يأتي عقب هذه الحروف المقطعة- أن هذا القُرْآن من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذه الحروف هي من كلام البشر العربي عموماً، فكلام أبلغ البلغاء وأقلهم بلاغة يتركب في هذه الحروف، وهذا القُرْآن أنزله الله تَعَالَى مركباً من هذه الحروف التي تقولونها، ومع ذلك فلن تستطيعوا أن تأتوا بمثله، ولو اجتمع الجن والإنس عَلَى ذلك، ولو كَانَ بعضهم لبعض ظهيراً، أو استعانوا أيضاً بمن شاءوا ممن عداهم لا يمكن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، بل ولا بعشر سور، بل ولا بسورة من مثله.
فهذا دليل عَلَى أن هذه الحروف لها حكمة واضحة، وأن هذا يعين عَلَى فهم معناها، بمعنى أنه لا يشترط أن نقول: النون لها معنى خاص، أو القاف لها معنى خاص، الحكمة من ذكرها تشير أو تدل عَلَى المراد، وهو أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يصدر كتابه بهذه الحروف للدلالة عَلَى ما قلنا: إن القُرْآن يتركب منها، ومن يريد أن يكذب ويقول: أن هذا ليس من عند الله، كما قيل: ((وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ)) [الشعراء:210] وقيل: ((إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ))[النحل:103] وقيل: ((أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا)) [الفرقان:5] وأمثال ذلك فهذه هي حروف القُرْآن التي تقولونها وتستخدمونها، فهل تستطيعون أن تأتوا بمثله؟!